بات اشتعال النيران في جنح الظلام الدامس، مشهدًا مألوفًا يكاد لا يهدأ في مختلف أنحاء أوروبا عمومًا وفرنسا خاصة، سواء في العديد من الغابات والحقول أو الأحياء والضواحي، وهي الحرائق التي لم تكن ناتجة عن موجات الحر، وإنما تبين أنها مفتعلة على يد البشر. ومنذ عام 2020 وحتى الآن تكدست في مختلف المحاكم الأوروبية قضايا تكشف عن مآسي ارتكبها متطرفون لأسباب مختلفة تنوعت بين الاحتجاج على الأوضاع السياسية أو لأهداف إجرامية أو من خلال أشخاص يعانون من اضطراب نفسي. ذلك الأمر حول تلك الحرائق المفتعلة من مجرد حوادث متفرقة إلى ظاهرة مقلقة تستنزف الموارد وتهدد الأرواح وتخلف وراءها مشاهد من الدمار والرماد، متحديةً جهود رجال الإطفاء الذين سقط منهم العشرات والعشرات خلال محاربتهم لتلك النيران على الخطوط الأمامية المشتعلة. وبحسب الصحف الفرنسية، فلا يمكن فهم حجم الظاهرة إلا من خلال الأرقام، والتي من وجهة نظرهم ترسم لوحة قاتمة للواقع، خاصة بين عامي 2021 و2023، حيث سُجلت عشرات الإصابات بين رجال الإطفاء والمدنيين، بالإضافة إلى حالات وفاة مؤلمة، خاصةً عندما تحاصر النيران سكان المنازل المعزولة أو المسافرين على الطرق السريعة. وكشفت تقارير خدمة كوبرنيكوس الأوروبية لمراقبة الغلاف الجوي ونظام المعلومات عن حرائق الغابات في أوروبا (EFFIS)، عن أن نسبة كبيرة من المساحات المحروقة في حوض البحر المتوسط، خاصة في فرنسا وإسبانيا والبرتغالوإيطاليا واليونان، تكون ذات منشأ بشري متعمد أو مشبوه. في صيف 2022 وحده، الذي شهد موجة حر تاريخية، احترق أكثر من 65,000 هكتار في فرنسا، حيث أشارت تقديرات الدرك الوطني إلى أن ما يقرب من 50% من هذه الحرائق كانت متعمدة أو ناجمة عن إهمال شديد، ووصلت تكلفة عمليات الإطفاء وحدها إلى ملايين اليوروهات يوميًا، ناهيك عن خسائر السياحة والزراعة وتدمير البنية التحتية. كوارث مأساوية لم يختلف الحال في إسبانيا والبرتغال، حيث تشهد الدولتان نفس النمط، وفقدت آلاف الهكتارات من الغابات، التي تحتاج إلى عقود لاستعادتها، كون تلك الغابات ليست مجرد أشجار بل هي عبارة عن نظم إيكولوجية التي تأوي التنوع البيولوجي الفريد، وتنقي الهواء، وتحمي التربة من التآكل. حتى الدول الأوروبية الشمالية والوسطى لم تسلم من تلك الهجمات المفتعلة مثل السويد وألمانيا، حيث أصبحت غاباتها في فترات الجفاف غير المعتادة، عرضة لهجمات مشعلي الحرائق، الذين صنفوا إلى عدة فئات بناء على دوافعهم. وكانت البرتغال مسرحًا لكوارث مأساوية، أبرزها حريق بيدروغاو غراندي في 2017 الذي أودى بحياة 66 شخصًا، وأدين رجال إطفاء متطوعين بتهمة الإهمال وليس التعمد المباشر ويُقدر العدد الإجمالي للوفيات المرتبطة بحرائق مفتعلة أو مشبوهة في البرتغال بين 2020-2024 بحوالي 15-30. وفي إيطاليا تركّز الحرائق المتعمدة على المناطق الجنوبية مثل صقلية وكالابريا وكامبانيا، غالبًا لأغراض المضاربة العقارية أو إعادة توظيف الأراضي الزراعية. كما شهدت اليونان كوارث مميتة، وفي الأعوام من 2020 إلى 2024، كانت معظم الوفيات ناجمة عن حرائق غابات ضخمة، يُشتبه في أن بعضها مُفتعل، اشهرها في صيف 2023، حيث أدت حرائق الغابات الهائلة، خاصة في رودس وشمال اليونان، إلى مقتل أكثر من 20 شخصًا وتسبب في عمليات إجلاء ضخمة. محاكمات بارزة وأمام ذلك لم تقف السلطات القضائية مكتوفة الأيدي، حيث شهدت السنوات الأخيرة محاكمات بارزة في أوروبا، كان من أشهرها قضية حرائق جيروند في فرنسا عام 2022، والذي شهد أكبر الكوارث البيئية في فرنسا الحديثة، وتم توقيف عدة أشخاص للاشتباه بتورطهم في إشعال العديد من تلك الحرائق. وركزت التحقيقات على شابين اتهما ب التدمير المتعمد لبعض منها، ولو ثبتت إدانتهما فإنهما قد يعاقبان بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا وغرامات باهظة، حيث لا تزال القضية قيد النظر، مما سلط الضوء على صعوبة جمع الأدلة القاطعة في مساحات شاسعة محترقة. وفي جنوب غرب فرنسا، أدين فرنسي في عام 2019 بتهمة إشعال ما لا يقل عن 18 حريقًا في غابات منطقة لاند بين عامي 2016 و2018، وكشفت التحقيقات عن ملف نفسي معقد للمتهم، حيث اعترف بأن إشعال النار كان يمنحه شعورًا بالقوة ويخفف من معاناته النفسية، وحكم عليه بالسجن 8 سنوات. كانت أزمة السترات الصفراء في فرنسا خلال احتجاجات عامي 2018-2019، بدورها من أبرز تلك الحالات حيث شهدت باريس موجة من الحرائق المتعمدة استهدفت الشركات و ساحات الدعاية ومباني حكومية، كتعبير عن الغضب من الحكومة. ونظرت المحاكم الفرنسية في مئات القضايا المتعلقة بأفراد السترات الصفراء، حيث اتهموا بإشعال الحرائق خلال المظاهرات، وتراوحت الأحكام بين غرامات وقضاء عقوبة في السجن، وأكد القضاة أن استخدام النار كأداة احتجاج هو تهديد خطير للأمن العام ولا يمكن التسامح معه. ويوم الخميس الماضي حكم على شاب فرنسي يبلغ من العمر 27 عامًا، بالسجن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ وثلاث سنوات من المراقبة الاجتماعية والقضائية من قبل محكمة لاروشيل، بعد اعترافه بالوقوف وراء سلسلة من هجمات الحرق العمد في شارينت ماريتيم. وتبين وفقا لتحريات الشرطة، أن المتهم اكتشفت صلته بالحرائق عندما استدعي كشاهد بسيط، حيث أقدم على إحراق منزله عمدًا لإبعاد الشبهات عنه، ولكن بعد احتجازه لدى الشرطة، اعترف في النهاية بتورطه في عدة حرائق متعمدة وقعت منذ يوليو ويُنسب إليه ما مجموعه ستة حرائق. وكشفت التحقيقات أن المتهم كان في عدة مناسبات إما سببًا في إرسال الإنذار إلى مركز الطوارئ، أو أنه كان قريبا من مكان الحريق، وكان يعاني من التوتر بعدما اكتشفت زوجته إدمانه على القمار. كما تنتظر امرأة تبلغ من العمر 76 عاما المثول أمام المحكمة في أكتوبر القادم، بعدما اتهمت من قبل الشرطة الفرنسية بمسئوليتها عن 13 حريقًا في النباتات في منطقة سكنتها على مدار فترتين منفصلتين، في صيف عام 2022 ثم في صيف عام 2025، ووفقًا للمدعي العام في مونتوبان، فسرت أفعالها بتعرضها للإحباط المفرط تجاه بعض سكان القرية. طلبت المتهمة بإشعال الحرائق، والتي تُحاكم بتهمة إشعال النيران في النباتات في بلدية سكنها 13 مرة، تأجيل محاكمتها إلى يوم الثلاثاء 26 أغسطس 2025. وقررت المحكمة حبس المتهمة احتياطيًا على ذمة القضية، في انتظار موعد الجلسة الجديدة في 3 أكتوبر 2025. وتعد قضية حرائق كاتالونيا في إسبانيا عام 2030 واحدة من أكثر القضايا إثارة للصدمة، حيث تم القبض على حارسي غابة متقاعدين بتهمة إشعال النيران عمدًا ليكسبا أموالاً إضافية من العمل في إخمادها، وهي القضية التي كشفت عن ثغرة مأساوية عندما يستغل بعض الأفراد الكارثة التي من المفترض أن يكونوا خط الدفاع الأول ضدها، واجه المتهمون تهمًا خطيرة قد تؤدي إلى عقوبات سجن طويلة ومازالت تدور رحاها في المحاكم. دوافع مختلفة أمام دوافع الإحراق المتعمد، فتبين أن التخريب والاحتجاج الاجتماعي، هو الدافع الأكثر ظهورًا، حيث غالبًا ما تُستخدم الحرائق كأداة للاحتجاج على السياسات الحكومية أو كتعبير عن الإحباط والغضب المتراكم في المناطق المهمشة اقتصادياً. وتتميز احتجاجات الضواحي ذات الدخل المنخفض باندلاع الحرائق المتعمدة في السيارات وحاويات قمامة، وذلك كشكل من أشكال المواجهة مع السلطات أو احتجاجًا على التهميش والتمييز. أمام الاحتياجات البيئية، فيتم في حالات نادرة فقط استهداف مشاريع من قبل نشطاء البيئة المتطرفين يرون أنها ضارة مثل مواقع البناء على الأراضي الطبيعية. أيضا تعد الحرائق المدفوعة بالمصالح الاقتصادية شكلا من أشكال تلك الظاهرة، حيث تصبح النيران أداة لتحقيق مكاسب مادية ويطلق عليها وسائل الإعلام، الإجرام من أجل المنفعة والتي تشكل على سبيل المثال المضاربة العقارية والتي يتم خلالها إحراق أراضٍ زراعية أو غابات لتغيير تصنيفها وجعلها قابلة للبناء، مما يجعل قيمة الأرض أعلى بكثير. يأتي ذلك بجانب التغطية على جرائم أخرى، حيث يتم إشعال الحرائق في المتاجر أو المصانع، وذلك بهدف إخفاء آثار سرقة أو تزوير الفواتير، كما يتم إشعال النيران ضمن الصراعات التجارية بهدف التخلص من منافس عن طريق حرق مشروعه. استراتيجية المواجهة ومن أبرز الدوافع أيضا ما يعرف باسم "هوس إشعال الحرائق"، وهو اضطراب نفسي حقيقي يتميز بقيام صاحبه بإشعال النار بشكل متكرر ومتعمد بسبب التوتر أو الإثارة الانفعالية قبل الفعل، يليه شعور بالارتياح أو المتعة عند مشاهدة الحريق وتبعاته، حيث لا يسعى هؤلاء الأفراد بالضرورة إلى التسبب بأذى لأشخاص، بل هم مدفوعون بدافع مرضي داخلي. كما أن الإهمال الجسيم، يصنف ضمن الحرائق المفتعلة رغم أنها ليست متعمدة بالمعنى الحرفي، إلا أن السلوكيات المتهورة مثل إلقاء أعقاب السجائر من نوافذ السيارات، أو إشعال النار للشواء في أماكن محظورة أثناء تحذيرات الجفاف، لها نفس عواقب الفعل المتعمد. ومن أجل مواجهة تلك الظاهرة يرى علماء الاجتماع وخبراء الجريمة أن الحرائق المفتعلة في أوروبا هي نار حقيقية ذات أوجه متعددة اجتماعية واقتصادية ونفسية وجنائية، يتطلب مكافحتها استراتيجية متعددة الأبعاد. يأتي في المقام الأول تعزيز دور أجهزة الاستخبارات والمراقبة وتبادل المعلومات والموارد بين دول الاتحاد الأوروبي بما في ذلك استخدام الطائرات المسيرة وكاميرات المراقبة في المناطق المعرضة للخطر، ومشاركة طائرات الإطفاء، وضبط العقوبات القانونية لتكون رادعة لكل من يفكر في ارتكاب تلك الجريمة، كما لابد ضمن الاستراتيجية زيادة الوعي العام بمخاطر أي تصرف قد يؤدي إلى حريق، خاصة في فترات الجفاف، وتعزيز برامج المراقبة المجتمعية، بجانب التدخل الاجتماعي والنفسي لمعالجة جذور الاحتجاج في المناطق المهمشة، وتوفير الدعم والرعاية النفسية للأفراد الذين يظهرون سلوكيات مقلقة أو يعانون من اضطرابات مثل هوس إشعال الحرائق. اقرأ أيضا: الأرصاد الجوية الأممية: حرائق الغابات تفاقم أزمة تلوث الهواء عالميًا