بخطواتٍ راسخة تجسدت على صفحات الأدب العربى، رسم «صنع الله إبراهيم» ملامح لم ينمحِ صداها، رسم بصمات لا تخبو، عاش بين شقوق السياسة، وشغف الكتابة، والقلم الثائر. ولد فى القاهرة عام 1937. بدأ رحلته التعليمية فى جامعة القاهرة على مقاعد كلية الحقوق، لكن سرعان ما لصق به الشغف السياسي؛ فانضم إلى إحدى المنظمات الشيوعية، واعتقل عام 1959، ليقضى خمس سنوات خلف القضبان حتى 1964، خرج من السجن محملا بصور وتجارب تحولت لاحقًا إلى مادة روائية متفردة. بعد إطلاق سراحه عمل بوكالة الأنباء المصرية عام 1967، ثم انتقل إلى برلين مراسلا لوكالة الأنباء الألمانية، ومنها إلى موسكو لدراسة السينما، قبل أن يعود إلى القاهرة عام 1974، ويتفرغ للأدب سنة 1975، شارك فى تأسيس اتحاد الكتاب المصريين، وكان صوته حاضرا فى النقاشات الثقافية الكبرى. كانت كتاباته تعبيرا عن ضمير اليسار، والنقد السياسى الحاد، استند إلى المنهج التوثيقى فى السرد، فجمع بين الرواية والوثيقة والصحيفة، ليلتقط أعماق الواقع المصرى والعربى بروح الباحث والمقاوم. أعماله خلدت اسمه، وكان من بينها، «تلك الرائحة» (1966): التى تعد نبعًا من تجربته السجنية، التى حملت طابع الحداثة، والانفصال عن النمط التقليدى، و«نجمة أغسطس» (1974) التى تتحدث عن مشروع السد العالى وتحولات المجتمع المصرى، ثم «اللجنة» (1981) التى تعد هجاء سياسيا لسياسة الانفتاح، و«ذات» (1992): دمجت بين السيرة والوثيقة، ورصدت تحولات المجتمع المصرى منذ ثورة يوليو، أما «شرف» (1997): فمن أبرز روايات السجون فى الأدب العربي، كما كتب «بيروت بيروت»، «وردة»، «الجليد»، «أمريكانلي»، «التلصص»، «العمامة والقبعة»، وغيرها، إضافة إلى قصص قصيرة، وأدب أطفال.. ولكل ما سبق كان ل»صنع الله إبراهيم» أثره فى المكتبة العربية، لما تركه من إرث أدبى يضاهى فى قوته وفرادته كبار الروائيين فى القرن العشرين، لم تكن رواياته مجرد أحداث وشخصيات، بل كانت مرايا واسعة تعكس تاريخ مصر، وتحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وتلتقط تفاصيل الحياة اليومية بعين الصحفى الدقيق ووجدان الفنان المتمرد، أدخل إلى السرد العربى أسلوبا وثائقيا غير مسبوق، دمج فيه الوثائق الرسمية والمقالات الصحفية والتقارير الإخبارية داخل نسيج الرواية، ليجعل القارئ شريكا فى عملية البحث والتحقق، لا مجرد متلق للأحداث.. هذا المزج بين الوثيقة والفن أسَّس مدرسة جديدة فى الكتابة الواقعية النقدية، فصار اسمه مرادفا للأدب الذى يوقظ الوعى، ألهم أجيالا من الكتاب الشباب لطرح الأسئلة الكبرى عن الحرية والهوية، دون خوف من الاصطدام بالثوابت السياسية أو الاجتماعية، كما أن أعماله، التى ترجمت إلى لغات عدة، ساهمت فى تعريف القارئ الأجنبى بالنبض الداخلى للمجتمع المصرى والعربى، بعيدًا عن الصور النمطية الجاهزة. بفضل هذا الإرث، أصبحت المكتبة العربية أغنى وأجرأ وأكثر التصاقا بالواقع، وصار «صنع الله إبراهيم» علامة فارقة فى تاريخ السرد، ليس فقط لأنه كتب، بل لأنه جعل الكتابة فعل مقاومة، وحوَّل الكلمة إلى أداة بقاء، وذاكرة جماعية لا تمحى.