«قرأت كثيرًا من الكتب، فما وجدت فيها أعظم فائدة من تلك الكلمة التى وجدتها فى كتاب الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، ففهمت أن الإصلاح يبدأ من الداخل».. كانت تلك من أشهر أقوال الإمام محمد عبده والتى جعلها شعارًا لكل خطواته التنويرية، فظل يبحث عن الوسطية، وفى الذكرى ال 120 لرحيله نستعيد سيرة أحد أبرز رُوّاد التنوير فى العالم العربي، رجلٍ خاض معركته بالفكر والقلم، مؤمنًا بأن الإصلاح الحقيقى يبدأ من أعماق الإنسان وينتهى بإحياء الأمة، ولذلك بدأ من قلب الجامع الأزهر، وأعاد الحياة للدرس، فكان أستاذًا لا يلقن، بل يحاور، ولا يفرض، بل يثير التساؤلات ويشحذ الأذهان، تَبنَّى فكرة أن الإسلام دين العقل والاجتهاد، لا الجمود والاتباع، وكان يرى ألا تعارض بين الدين والعلم، بل إن أحدهما لا يكتمل إلا بالآخر. كان يدرك أن الجمود الدينى قرين الجهل، وأن الإصلاح الدينى لابد أن يسير جنبًا إلى جنب مع الإصلاح التعليمى والاجتماعي، لذلك خاض معركته الكبرى ضد تقاليد بالية تحجرت، وحارب تأليه النصوص والرجال، ودعا إلى إعادة قراءة التراث بعين ناقدة مستنيرة. سطعت شخصية محمد عبده كقنديلٍ يتحدى ظلمة التقاليد الراسخة، وكمصلحٍ خرج من دوائر التكرار إلى فضاء الاجتهاد، لم يكن شيخًا تقليديًا يُعيد ما قيل، بل مفكر يؤمن بأن إحياء الأمة يبدأ بتحرير العقول من الخوف، والقلوب من الجمود، والمدارس من التلقين. رأى أن الإسلام يحمل فى جوهره مشروعًا حضاريًا مفتوحًا على المستقبل، لا سجنًا فكريًا مغلقًا على الماضي، فاختار أن يكون لسان التنوير فى زمنٍ خشى فيه الكثيرون حتى الهمس باسم التغيير. استلهم محمد عبده، مشروع مدرسة الألسن بوصفها قناة عبورٍ حضارى بين الشرق والغرب، ومُحرّكًا مَعرفيًا يربط الأمة بثقافات الشعوب الأخرى، فدعم الترجمة باعتبارها عملًا نهضويًا يعيد وصل مصر بالمعارف الحديثة، وينقلها من التلقى السلبى إلى المشاركة الواعية. حين تولّى مناصب مؤثرة فى التعليم، وعلى رأسها دار الإفتاء والمجلس الأعلى للمعارف، دعم تطوير المدرسة، وتوسيع البعثات العلمية، مؤمنًا بأن نهضة الأمة تمر أولًا من بوابة المعرفة. لم تكن رحلة الإمام سهلة، فقد دفع ثمن تنويره غاليًا؛ حورب، واتُهم، وشُوِّهت أفكاره، لكن قلمه لم ينكسر، وصوته لم يخفت، كتب فى «الوقائع المصرية»، وأطلق مجلته الشهيرة «العروة الوثقى» مع جمال الدين الأفغاني، ليكونا معًا طليعة إصلاحية تجاوزت حدود الوطن إلى آفاق الأمة كلها. حين رحل الإمام محمد عبده عام 1905، لم يرحل فكره، بقيت كلماته تعيش فى ضمير المفكرين والمصلحين، وخَلَّدته كتبه: «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، و»شرح نهج البلاغة»، و»رسالة التوحيد» كوثائق شاهدة على عقلٍ آمن بالله، وانحاز للإنسان.