حين يمتزج الفن بالرمز، والتاريخ بالجمال، تتكوّن معجزة مصرية لا تُنسى. بين يدينا اليوم واحدة من أروع القطع الفنية التي خلّدها التاريخ الفرعوني، رأس صغيرة للملك الشاب توت عنخ آمون، يخرج من قلب زهرة اللوتس المتفتحة. ليست مجرد منحوتة، بل قصيدة صامتة تحكي عن الأمل والتجدد والحياة الأبدية، عبر فنون العمارنة التي سكنت وجدان المصري القديم، وتركها لنا في هذا العمل الفريد من نوعه. أولًا: تحفة فنية ناطقة بالحياة تجسّد هذه الرأس الصغيرة المصنوعة من الخشب المغطى بطبقة رقيقة من الجص الملون ملامح الملك توت عنخ آمون ببراءة وهدوء ساحر. العيون الواسعة، والابتسامة الرقيقة، وشكل الوجه المستدير، جميعها تحمل بصمة فن العمارنة الذي اشتهر بالرقة والواقعية وتركز على الملامح البشرية العذبة، بعيدًا عن الجمود الرسمي الذي طغى على ما قبله من عصور. ثانيًا: اللوتس.. الرمز الأقدس في الفن المصري تنبثق رأس الملك من زهرة لوتس متفتحة، وهو مشهد لا يُرى كثيرًا في الفن الجنائزي الفرعوني. فاللوتس، الذي يفتح مع بزوغ الشمس ويغلق مع مغيبها، لم يكن مجرد نبات، بل رمز للبعث والتجدد والحياة الجديدة. وكان يُستخدم بكثافة في الأدب الديني والمعتقدات الجنائزية، تعبيرًا عن الولادة من جديد في العالم الآخر. خروج رأس الملك من قلب اللوتس لا يعني فقط ميلادًا جسديًا، بل رمزيًا أيضًا: توت عنخ آمون، الذي اعتُبر تجسيدًا للرب الشاب رع، يولد من جديد كل فجر، كالشمس من الأفق الشرقي، يشرق بالحكمة والنور. ثالثًا: موقع العرض.. المتحف المصري الكبير من المقرر أن تُعرض هذه القطعة البديعة في المتحف المصري الكبير، ضمن قاعة مقتنيات توت عنخ آمون، التي تضم أكثر من 5000 قطعة من كنوزه التي أبهر بها العالم منذ اكتشاف مقبرته عام 1922. اقرأ أيضا| «توت عنخ آمون».. حكاية ملك شاب نطق التاريخ بصمته تُعد هذه الرأس واحدة من القطع الأيقونية في المجموعة، نظرًا لجمالها الفني الفريد، ورمزيتها العميقة التي تجمع بين المعتقد الديني، والفن الراقي، والتاريخ السياسي للملك الشاب الذي ارتقى العرش في سن صغيرة، وترك إرثًا أبديًا في ذاكرة الإنسانية. رابعًا: العمارنة.. فلسفة الجمال والهدوء تعود ملامح هذه الرأس إلى التأثير الفني الكبير لعصر العمارنة، الذي انطلق في عهد الملك إخناتون، والد توت عنخ آمون، وتميز برؤية فنية تُعلي من شأن التعبير الإنساني والمشاعر الهادئة والملامح الواقعية. ومن خلال هذه القطعة، نلمح استمرار هذا التيار الفني في فترة حكم توت عنخ آمون، رغم عودته الظاهرة لعبادة آمون ومركزية طيبة. خامسًا: قطعة تتحدث بلغة الخلود ليست هذه الرأس قطعة أثرية عادية، بل نافذة تُطل على فلسفة مصر القديمة، حيث الفن يحمل رسالة، والرمز يحيا في كل منحوتة، والزهور تتحدث عن الحياة بعد الموت. وكل من يراها يشعر بذلك الهدوء الملكي والضوء الذي يشعّ من الملامح... وكأنها تقول: "الملك لا يموت، بل يتفتح من جديد". زيارة المتحف المصري الكبير لم تعد مجرد رحلة عبر التاريخ، بل لقاءٌ بصري وروحي مع عظمة الماضي، ومع جمال خالد خرج من زهرة. تأمل رأس توت عنخ آمون المتفتحة من اللوتس، وستعرف كيف جعل المصري القديم من الفن... طريقًا إلى الخلود.