حوار: أحمد عبد اللطيف دعنا نبدأ من الجائزة وعلاقتك بسركون بولص قبل أن ننتقل إلى تفاصيل مسيرتك الشعرية. تمتد علاقتى بشعر سركون بولص إلى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، وقد عرفنا قصائد سركون للمرة الأولى فى مجلة محمود درويش الشهيرة «الكرمل»، كنا وقتها نبحث محمومين عن أعداد المجلة، والتى مثلت لى ولكل صديقاتى وأصدقائى مرجعا ثقافيا وشعريا عظيما استطعت الحصول بعد ذلك على ديوان سركون بولص الثانى «الحياة قرب الأكروبول» والذى نشره عام 1988 فى المغرب، وأهداه إلى كاظم جهاد، صديقنا الكبير المشترك، بإهداء جميل: «إلى كاظم جهاد، فى قلب الأكروبول بالضرورة»، والذى أهديته أنا كذلك ديوانى الأخير بعد ثلاثة وثلاثين عاما من صدور ديوان سركون. ظل «الحياة قرب الأكروبول» يصاحبنى حتى الآن وقد نجا من كثرة استعارته من قبل الأصدقاء فقد كنت حريصا دوما على أن يعود إليّ قرأنا بعد ذلك بسنوات ديوان سركون الأول «الوصول إلى مدينة أين» وكنا قد وجدناه لدى صديقنا الكاتب والسينمائى حسام علوان، ولكنه اختفى بعد أن استعاره أحد الأصدقاء ظل ديوان «الحياة قرب الأكروبول» أكثر قربا لنا وبقيت مكانته محفوظة فى قلوبنا حتى بعد قراءتنا لكل الدواوين اللاحقة يعود الأمر إلى الشعر والحنين إلى بدايات الاكتشافات الكبرى والدهشة العميقة التى تصاحبها. لم تتم دعوة سركون بولص مطلقا إلى القاهرة، ولم نره لا فى مصر ولا فى خارجها، وهو لم يعرف أبدا أن له قراء شبانا فى مصر يقرأونه ويحبون عمله، إلا بعد لقاء له مع صديقى الفنان محمد عبلة حيث التقيا فى ألمانيا وأخبره ساعتها أن شباب الشعراء فى مصر يتداولون قصائده ويقدرونه كل التقدير، ولم يصدق فى بداية الأمر حسبما أخبرنى الأستاذ عبلة، وكان متعجبا للغاية، ثم التقاه بعد ذلك صديقى الكاتب والمترجم أحمد فاروق فى برلين وأكد له الأمر وكنا سعداء للغاية بلقاء عبلة وفاروق بسركون وأنه على الأقل عرف أن له قراء محبين فى مصر وأنه كان أحد الآباء الملهمين والمهمين فى تجربة عدد من الشعراء المصريين، وأن القصائد الجميلة، دون شك، تجعل الحياة أجمل. الجائزة التى يقوم عليها الصديق الشاعر والناشر خالد المعالى تؤكد على مركزية تجربة سركون بولص فى الشعر العربي، هو الذى لم يحصل على جائزة واحدة، وعلى تشابك حياته بشعره وهو من اجتاز الصحراء مشيا حتى وصل إلى بيروت، وبعدها ظل هائما يتنقل بين البلاد بحثا عن القصيدة كتابة وترجمة فى أحد أكبر التجارب إخلاصا للشعر وللحياة. كان لى شرف المساهمة مع الصديقة المستعربة الإسبانية ماريّا لويسا برييتو فى ترجمة مختارات من قصائد سركون بولص إلى الإسبانية، وذلك عام 2021 وقد اعتنى الشاعر آنخل جيندا بمراجعة النص الإسبانى والسهر على المختارات حتى صدرت فى شكل جميل تحت عنوان: «دخان البوصلة». عملنا على المختارات لزمن ليس بالقصير، لكنها لم تصدر إلا ذلك العام. كذلك أود الإشارة إلى ترجمة أخرى ممتازة لمختارات شعرية لسركون بولص نهضت بها المستعربة الإسبانية لوث جوميث، وهى كذلك عملت عليها لسنوات طويلة ونشرت فى العام نفسه تحت عنوان: «عظمة لكلب القبيلة وقصائد أخرى». فى حفل تسليم الجائزة فى الرباط قمت بقراءة قصيدة لسركون بولص من الذاكرة، وكنت قد حفظتها فى بداية التسعينيات ولم أنسها منذ ذلك الحين: «انتهاء العلاقة»: حبها يبدأ يومًا بعد يوم، ساعة بعد ساعة/بالانقلاب إلى خارطة أليفة ويطوى المكتشف خيمته/على حدود الجرف الأخير/فى قارة أتم اكتشافها../ذلك الحور الذى أغراه بها منذ البداية/لم يعد يصيبه برمية واحدة فى القلب./كل شهقة تهرب حول كتفيها/وكانت أسيرة، فى المناجم، معقل الرغبات/كل إباحة جديدة للخفايا/مجرد رهان على الماضى فى هذه الأيام. فى ديوانك الأول «فى شوارع الأبيض والأسود» (1995) تقول: فى شتاء بعيد/ كانت الأشجار بلا ورقة واحدة/ كنا فى طريق المعسكر/ كل شجرة وراء أختها/ فى طابور منظم/ أمى الشابة/ أخذت تجمع الفروع الساقطة/ لإشعال فرن الخبيز/ ورائحة الدخان ستكون فى البيت/ كما فى الشارع فى هذا المقطع ثمة تأسيس لعالمك الشعرى فى دواوينك التالية مع توسع فى هذا العالم: هنا شتاء، أشجار، طريق، أمٌ وما يتعلّق بها من تفاصيل، بالإضافة لصورة الأب الحنون، وفى الديوان نفسه وجود قوى لحبيبة سيتكرر وجودها على طول مسيرتك الشعرية. وثمة تكنيكان لا يفارقان شعريتك حتى «الوداع فى مثلث صغير»: التذكُّر كوسيلة لفهم الماضى والتأمل كوسيلة للتذكُّر وربط الحاضر بالماضي. دعنا نبدأ من الأم كمكوّن رئيسى فى دواوينك على مدار ثلاثين عامًا. نحن مدينون لأمهاتنا بكل شيء، الأم هى التى جعلتنا ما نحن عليه، وقبل أن نولد بكثير، وفى تلك السنوات الأولى الغامضة من أعمارنا لا أحد سوى الأم، وحتى من فقد أمه حين الولادة سيجد نوعا ما من الأم فى جدة أو أخت أو قريبة، ولعلك تذكر أن صديقنا العزيز الشاعر الإسبانى الكبير الراحل آنخل جيندا فقد أمه حين ولادته، هذا الفقد صاحبه على طول الحياة، لكنه لم يعدم أبدا الأم بأشكال مختلفةعلى مدار السنوات التى عاشها. لا يتعلق الأمر هنا بأدوار اجتماعية، أو تقسيمات لعمل المرأة والرجل، الأمر أبعد من ذلك بكثير جدا، ففى معجزة الحياة ولغزها ونحن ما زلنا فى الرحم الأمومي، كل نأمة لدى الأم، كل غضب، كل حزن أو فرح، كل شيء منها إذا شئت هو ما وصلنا وما صنع حياتنا الباقية، وبعد ذلك السنوات الأولى، قد تكون ثلاثا، نحاول عبثا الوصول إلى أبعد نقطة فيها لكن الذاكرة لا تمنحنا سوى القليل ولا نعرف إن كان ذلك من صنع خيالنا نفسه أم أنه قد حدث حقيقة. أعود كثيرا إلى ابن عربي، ابن مدينة مرسية فى شرق إسبانيا، وهو للأسف الشديد غير معروف على مستوى كبير لا فى إسبانيا ولا فى أمريكا اللاتينية كانت واحدة من معلماته الكبيرات فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، وكانت فى التسعين من عمرها وهو لا يزال يافعا، كانت «أمه الإلهية ونور أمه الترابية». لابن عربى نظرات بالغة العمق فيما يتعلق بموضوع الأم، حيث «الأم محل الإيجاد» وحيث آدم نفسه أم حواء، وحيث الأرض هى أمنا، مما يذكرنا بالأرض الأم لدى شعوب الإنديز «باتشا ماما»، فى هذه الدورات الكبرى من المعرفة البشرية التى تتلاقى دون أن تعرف بعضها البعض. كان لدى تعاطف مطلق مع أمي، كنت طفلا أصغى لآلامها التى لا تحكيها، لكنى استشعرتها دائما. كانت فاطمة بنت ابن المثنى تقول لأم ابن عربى «يا نور هذا ابنى وهو أبوك فبريه ولا تعقيه». هذا النوع من تبادل الأدوار بين الأم وابنها فهمته فيما بعد. تبدو آليات التذكر والتأمل لربط الماضى بالحاضر، كما ذكرتَ، أساسية، لكنها ليست حياة الفرد وحده بل حياة الآخرين، فحياتنا القصيرة المحدودة دوما لا تكفى لصنع حياة واحدة. كيف اختلف الطريق فى قاهرة طفولتك وبدايات شبابك عن طريق نضجك فى مدريد، بالمعنيين المجازى والمباشر؟ نشأت فى أحد أشهر الأحياء الشعبية المصرية وهو حى الطالبية، بفرعية القبلى والبحري، شارع الأهرام، أو شارع الهرم، هو ما يفصل المنطقتين عن بعضهما، وُلدت فى الطالبية البحرية، التى تقع بين شارعى فيصل والهرم، لكن جزءا كبيرا من إخوتى وأقاربنا كان يسكن الطالبية القبلية، أو الطالبية فقط، حيث وُلدت أمى أيضا وجاء أبى إلى المنطقة شابا. هذا المكان الذى ولدت فيه عام 1970 أعيد اكتشافه منذ زمن، وأعود إليه دوما مفكرا فى تقلبات الأحوال. كانت الحياة مختلفة كثيراً عما هى عليه الآن فى كل شيء تقريبا، الأماكن نفسها، العلاقات بين البشر، البيوت المفتوحة للضيوف ليل نهار، بقايا بيوت الأجانب فى حينا، القصور الحجرية الصغيرة خلف شارعنا، الملاهى الليلية بجانبنا أشياء كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، كل ذلك بدأ فى التبدد شيئا فشيئا وعندما غادرت إلى إسبانيا عام 2001 كانت الحياة قد اختلفت تماما. ذهبت إلى إسبانيا بعد أن تجاوزت الثلاثين من عمرى مع زوجتى السابقة الإسبانية، وهناك بدأت حياة جديدة فى التشكل غير بعيدة عن الحياة التى خبرتها فى مصر، ولم يتعلق الأمر أبدا بنوع من الصدمة الحضارية، كما يقال دائما، فهذا لم يحدث لى على الإطلاق وذلك لعدة أسباب منها أن حياتى فى الوسط الثقافى المصرى أمدتنى بالكثير من المعرفة الحياتية بالغرب، إضافة إلى أن إسبانيا بأهلها لم تكن بعيدة عما أعرفه من حياة فى مصر وخاصة فى وسطها الثقافى المنفتح على ثقافات عديدة كذلك جعلتنى شروطى الحياتية فى إسبانيا فى قلب هذه الثقافة منذ اليوم الأول، فأن تنتقل من عائلتك إلى عائلة أخرى تستقبلك بكل محبة وترحاب لهو أمر يضعك فى بيتك الجديد مباشرة، وبغض النظر عن الدخول فى تفاصيل أكثر محببة إلى قلبي، فالخلاصة أنني، وبسبب من تلك الشروط، لم أشعر بغربة فى إسبانيا منذ تلك الأيام وحتى يومنا هذا بعد ما يقرب من ربع قرن فى حياتى فى هذا البلد الجميل الذى منحنى الكثير ولا يزال. تبدو قصيدتك شديدة التعلق بالطبيعة، والطبيعة نفسها إحدى وسائلك للتأمل، والشجرة حاضرة لأنها كذلك مكان انتظار الحبيبة فى «تحت شجرة العائلة». من هذا المنظور، كيف ترى علاقة الشعر بالطبيعة/الشجرة؟ فى الحقيقة علاقتى بالطبيعة ليست جيدة بالمرة، أحبها على البعد أكثر، الطبيعة لا تعرفنا، لا تعمل من أجلنا ولا يهمها وجودنا من عدمه، ولست مهووسا لا بالبحار ولا بالجبال، ولا بشساعة الصحراء ولا بامتداد الحقول، فقط أحب الأشجار والنباتات القابعة بين الأبنية، وربما لهذا أحب المدن الكبيرة حيث الأشجار فيها جزء من بنيتها لكنها ليست طاغية، ومع أننى أرى يوميا جبال مدريد على البعد إلا أن ما يلفت نظرى أبنية المدينة القديمة والحديثة، وأرى النقطة التى بدأت منها مدريد أو مجريط، حيث كاتدرائية ألمودينا، أى المُدَيْنة، تصغير المدينة بالعربية، وحيث بقايا سور المدينة القديمة التى أنشأها الأمير محمد الأول فى منتصف القرن التاسع. أحب مدريد بشكل خاص، مع إننى عشت سنوات طويلة فى بلنسية، وهى مدينة جميلة هى وما يتبعها من مدن أصغر وقرى، لكن يمكننى القول إننى أنتسب إلى مدريد، هناك الكثير من مهاجرى الداخل والخارج ممن يرون فى مدريد بلدهم، مدينتهم الأثيرة، لأن سحرا ما يغلف هذه المدينة التى شهدت تعدد اللغات والثقافات على مدى السنين والأيام. أعود إلى الطبيعة والتى اكتشفت أنها تعنى لى الشجرة، كان لدينا شجرة ليمون أمام بيتنا فى سنوات طفولتى الأولى، وظلت شجرة الليمون تصاحبنى وظهرت فى ديوانى «منتصف الحجرات». الشجرة هى كلية المعرفة، ألم يتحدث ديكارت عن الفلسفة باعتبارها شجرة؟ ألم يقل سان جون بيرس إن الإنسان شجرة؟ ألم يتكلم ميجيل دى أونامونو عن الشجرة باعتبارها رمزية للحياة والموت، وخاصة شجرة السنديان دائمة الخضرة؟ الشجرة حاضرة كذلك فى تراثنا الروحى وفى الأغانى الشعبية بالغة الرقة. الطبيعة بيتنا، لكن هذا لا يعدم أبدا أن تحب ركنا خاصا فى البيت أكثر من غيره. ثمة سمة عامة فى كل دواوينك على اختلاف أساليبها وتنوع لغاتها: الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة وبها تغزل قصيدتك. هل تعتقد بذلك أن التفاصيل كافية لفهم العالم دون التطرق لقضايا كبرى قد تجرح هذا العالم الرهيف؟ دعنى أخالفك الرأى يا صديقي، فلست أرى الأمر على هذا النحو من تفاصيل صغيرة فى مقابل قضايا كبرى. الموضوعات الكبرى للشعر، أو لنقل قضاياه، فى معظم الثقافات الإنسانية، تكاد تكون واحدة، من بينها الشرط الإنسانى نفسه والوجود والعدم والحب والاغتراب الروحى والفقد ومرور الزمن وانقضاء الحياة والفقر والحرب والعنصرية والظلم والقضايا الوطنية والتأمل فى الكون والطبيعة إلخ. ولا يتعلق الأمر بحقبة زمنية تختفى فيها القضايا الكبرى، كما أشيع، وتظهر فيها القضايا الصغرى، فكل قضية إنسانية هى قضية كبرى. تختلف طرق المقاربة فهناك قصائد تجريدية أكثر من غيرها وهناك قصائد تمعن فى الصورة الجزئية وأخرى فى الصورة الكلية، هناك قصائد غامضة وأخرى أقل غموضا، هناك قصائد مركبة وأخرى أكثر بساطة شكليا ومعجميا، والشعر محاولة دائمة لا مثال له كى يتم النسج عليه ويصير هذا هو الشعر بألف ولام التعريف. فى «الوداع فى مثلث صغير» ثمة لغة أكثر رهافة وحساسية، وثمة شخص وحيد يتأمل الحياة بعد رحلة طويلة، وانحياز أكبر للقصيدة القصيرة بكثافتها ومشهديتها. وحنين إلى العودة إلى بلد دون العودة إليه كيف فكرت فى بنية هذا الديوان، إذ يبدو ككتاب شعرى متكامل أكثر منه ديوانًا لقصائد متفرقة؟ فى الواقع كتبت دائما قصائد قصيرة وقصائد طويلة وأخرى تتراوح بين الطول والقصر، وهذا يبدو أيضا فى الديوان الذى تشير إليه، تجد قصائد قصيرة ذات سطور قليلة وأخرى بالغة الطول تتجاوز خمس عشرة صفحة لا يهم الطول أو القصر، كما يقول آنخل بالنتي أود القول أولا إننى منتبه لفكرة الكتاب الشعري، وإننى رغبت دائما أن تكون لكل مجموعة شعرية أو ديوان بنية خاصة بها، يتحقق هذا أحيانا وأحيانا أخرى لا يتحقق. أكتب كثيرا، لكننى لا أنشر كل ما أكتبه، وأتخلى عن قصائد كثيرة لدى إصدار الكتاب، وإذ أشرت مشكورا إلى ديوانى الأخير فالأمر نفسه ينطبق عليه، وقد حذفت منه، قبل نشره، ما يقرب من خمسين صفحة بدت لى بعيدة عن «روح» الكتاب. الوحدة موضع فى العقل وليس فى الحياة، وأى تأمل فى الشعر سيأتى من هذه الوحدة التى هى فى النهاية الصوت الداخلى والذى لن يشاركك فيه أحد، وهو يتعمق أكثر بمرور السنوات، رغم كل من يحيط بك. فى الديوان نفسه، فى قصيدة «سينما الحي»، وقصائد أخرى، يبدو السرد كمكوّن شعري، فصانع معارك السينما يشاهد معركة فى الشارع، وبتأثيرات صوتية يمنحها معنى. بقصائد شبيهة تنتقل قصيدة النثر فى منجزك الشعرى إلى منطقة أكثر سردية دون أن تتخلى عن نقاء الشعر. كيف ترى هذا التضفير كتحول طموح فى شكل قصيدة النثر ومضمونها؟ جميل أنك أشرت إلى هذه القصيدة فلديها حكاية طريفة تتعلق بالممثل ومصمم ومنفذ المعارك الشهير فى السينما المصرية الطوخى توفيق وكان قد سكن شارعنا فى آواخر سنوات حياته، وتوفى عام 1984. فى المساءات كان يجلس أمام بيته هادئا تماما وكان أمرا غريبا أن نراه فى الأفلام يقفز ويضرب ونراه فى الواقع على هذه الحال من الهدوء والتأمل من هنا جاءت هذه القصيدة المتخيلة لتصاحب حياته الذاوية دعنى أقول كذلك إن درجة الوعى بما نكتبه تتشكل لاحقا، هذا الوعى الذى يربط ويحلل لا يتأتى ساعة الكتابة نفسها، ربما يكون كائنا فى موضع ما من العقل قبل الكتابة، لكن اكتشافه ليس بالأمر الهين، هذا ما أظنه، وعلى هذا فإننى اكتشفت محبتى للسرد الشعرى منذ قصائدى المبكرة مثل قصيدة «شروط المحبة» فى ديوانى الأول، ولست بدعا فى هذا، فقد استقى بودلير قصائده النثرية فى ديوانه «سأم باريس» من «جاسبار الليل» لألوزيوس برنار، وبالرجوع إلى العملين ستجد السرد الشعرى حاضرا بقوة. لو أن ثمة بطلًا فى «منتصف الحجرات» فهو الزمن ويجاوره الذاكرة، هذا الزمن الدائرى المفتوح كنافذة على كل الأزمنة، كأنه يوم واحد طويل بمقولة بورخس. لكن المكان أيضًا يتمتع بالصفة نفسها: فكل الأماكن مفتوحة على بعضها، بيت القاهرة مفتوح على بيتك فى مدريد، وشوارع وسط البلد هنا مفتوحة على شوارع وسط البلد هناك. هل تعتقد بهذه الوحدة والتكامل بين الأزمنة والأمكنة؟ أماكن الشخص الحميمية تصاحبه دوما، المكان الجديد يصبح مكانا حميميا كذلك، وتتبادل الأماكن مواقعها لتصنع المكان الداخلى للشخص، هذا الفضاء الذى تتجاور فيه الأزمنة والأمكنة، لكن المكان أيضا ليس مكان الشخص المفرد فقط، إنه مكان جمعي، حيث مكان الإنسان على الأرض، الإقامة فى الأرض بالتعبير الجميل لنيرودا، من هنا أميل إلى هذه الوحدة، وحدة المكان والزمان بغض النظر عن مكان الإقامة الفعلي، فحتى فى مكان محدد أنت تحمل مكانا آخر داخلك وزمانا آخر، ليس بالضرورة أن تكون قد عشت فى المكان والزمان حتى يتجذرا بداخلك، هناك حقب تاريخية معينة فى أماكن مختلفة أشعر أنها تشكل جزءا من فضائى الداخلي، فنحن لا نعيش حيواتنا فقط بل حيوات عديدة تسمح لنا بتجاوز، ولو جزئيا، حياتنا المحدودة. كتبت عن الموت قصائد عديدة، لكن قصيدة «تشيمو» تربط الموت بالانتماء للمدينة، فبموته لم تعد غريبًا فى هذا البلد. حدّثنى عن فلسفتك حول علاقة الموت بالانتماء، على عكس المعروف أن الأحياء من يربطوننا بالأماكن. أكتب عن الموت منذ قصائدى المبكرة لأسباب أكاد أجهلها، دون أن أعى ذلك تمام الوعي، وأظن أنه ليس مهما معرفة الأمر، هو أمر حاصل دوما ونختبره يوميا، وخلايانا تموت ونحن أيضا نموت جزئيا فى النوم، ثم نموت كليا، الموت قائم فينا منذ مولدنا، ونعرف أنه يمكن أن يحدث فى أى وقت هذه المعرفة نحوزها أكثر بمرور الأيام ونصبح أكثر انتباها للفناء، ونراه فى كل شيء أمامنا، فى الحب والصداقة، فى المدن والقرى، فى الكون نفسه مرة قال لى صديقى الراحل الكبير شعرا وروحا مهاب نصر إن الموت فى قصائدى يبدو طقسا فرحا، وفكرت بعدها فيما قاله مهاب واكتشفت ببساطة أننا نتعامل مع الموت كما نتعامل مع الأعراس، هناك الطعام وهناك المعزون والمهنئون، هناك الإيقاع، هناك ذلك الاجتماع البشري. الأمر واحد فى النهاية، الموت يربطنا بالمكان، يجعل لنا جذورا فيه ولا أعنى فقط دفن الجثمان داخل تابوت. فى إسبانيا ذهبت إلى المقابر مرات عديدة، مقابر المسلمين ومقابر المسيحيين، لحضور مراسم الدفن، وفى كل مرة أكتشف أن الموت يربط الكائن البشرى بالأرض، حتى لو تم حرق الجثمان، يجعل دورة الحياة ممكنة فى أمنا الأرض، وهناك ثقافات تحتفى بالموت ولا تراه فعلا دراماتيكيا، بل ضرورة وفرحا باكتمال الحياة. أما ما نراه بأم أعيننا يوميا على الشاشات من قتل للأطفال وللأبرياء فى أكثر الجرائم وحشية على وجه الأرض فهذا أمر مختلف تماما، هنا لا تكتمل دورة الحياة، بل يتم ابتسارها ويصير الموت جرما شنيعا وشرا مطلقا. من بين تيماتك المفضلة المطروقة فى كل الدواوين تقريبًا، بالإضافة للموت والغربة والقطيعة، يأتى الحب. وتجربتك فريدة وإضافة كبيرة إلى هذا النوع من القصائد. هل تعتقد أن الحب كمعنى يحتاج إلى مساحة مختلفة من التناول أم أنه فى النهاية تجربة فردية حتى لو تشابهت مع تجارب أخرى؟ الحب تجربة فردية بطبيعة الحال، وكل علاقة هى خبرة منفردة، لكن كل هذا يندرج تحت مسمى الحب والذى وسم التجربة الإنسانية على امتداد تاريخها، وفى قصائد الحب مثلا ومنذ آلاف السنين فى مصر القديمة وفى العراق القديم تجد هذه الألفة التى يمكن أن تجدها فى قصيدة حديثة، وكأن الزمن لا يمر. الشاعر لا يتعمد الجلوس لكتابة قصيدة حب، هى تخرج من نفسها، لأنها ابنة خبرة بالغة الخصوصية وهى تأخذ الشكل الذى تريده. لذلك ستظل قصائد الحب مدهشة فى الأغلب الأعم، لأنها كذلك تأتى من مواقع مختلفة فى مقاربة هذه التجربة الإنسانية العظيمة والتى لا تنضب مهما مرت السنوات. الغريب أنه يمكن التماهى مع هذه القصائد المنتجة فى أزمنة وأمكنة وثقافات مختلفة، مهما كانت شحنة الألم داخلها أو الفرح.