رئيس جامعة المنوفية يكلف الدكتور عصام الدين أبو المجد مستشارا للشؤون الهندسية    مستقبل وطن: انتخابات الشيوخ استحقاق دستوري يرسخ دعائم الجمهورية الجديدة    غرفة المنشآت الفندقية تتعاون مع شركتين عالميتين بمجال التدريب الرقمي على الضيافة    رئيس الوزراء يفتتح مركز السيطرة والتحكم بشركة مياه الشرب بالإسكندرية    تضامن الغربية: ملابس جديدة للأيتام والأسر الأولى بالرعاية في المحلة ضمن مبادرة إنسانية الأورمان    رئيس المخابرات يعقد لقاء مع وزير الخارجية القطري ووفود المفاوضات لمتابعة جهود وقف إطلاق النار في غزة    الاتحاد الأوروبي يؤجل تطبيق الإجراءات التجارية المضادة على السلع الأمريكية حتى أغسطس    لوباريزيان توضح موقف جواو نيفيز من السوبر الأوروبي بعد طرده أمام تشيلسي    تشييع جثمان لاعب الفلاي بورد محمود نوار في جنازة مهيبة بمسقط رأسه بالمنوفية    بورسعيد.. توفير الأعداد الكافية من المنقذين المؤهلين بطول الشاطئ    شطب دعوى تطالب إبراهيم سعيد بدفع المصروفات الدراسية لبناته    الخطوات الصحيحة لتسجيل الطفل في المدارس الحكومية أونلاين.. التفاصيل الكاملة    نائب حافظ الدقهلية والسكرتير العام يتفقدان مركز ومدينة نبروه..صور    الرياضية: النصر لا يفكر في الانسحاب من السوبر السعودي    إجازة مرضية.. أوسيمين يغيب عن تدريبات نابولي التحضيرية للموسم الجديد    نيوم يقترب من خطف صفقة مدوية من البوندسليجا    نقابة المعلمين تنفي زيادة المعاشات: لا صحة لما يُتداول على مواقع التواصل    وزارة النقل تنفي صلة الفريق كامل الوزير بتسجيل صوتي مزيف يروج لشائعات حول البنية التحتية    مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة آخرين بأحداث أمنية صعبة في غزة    مقتل 4 أشخاص في تحطم طائرة ببريطانيا    سحب 868 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    مدين يوقع ثلاثة ألحان في ألبوم آمال ماهر.. وتشويق بفستان الزفاف قبل طرح أول أغنية    بطرس دانيال يكشف ل"البوابة نيوز" تفاصيل حالة الفنان لطفي لبيب الصحية    الموزع أحمد إبراهيم يستحوذ على نصيب الأسد في ألبوم عمرو دياب ب 5 أغاني    رئيس الوزراء يتفقد مشروع تطوير مركز القسطرة وجراحة القلب والصدر بمستشفى شرق المدينة    ندوات للسلامة المهنية وتدريب العاملين على الوقاية من الحوادث بالأسكندرية    ضبط 22 طن أسمدة قبل بيعها بالسوق السوداء في حملات بالبحيرة    «قناة السويس» تبحث التعاون مع كوت ديفوار لتطوير ميناء أبيدجان    محافظ سوهاج يعتمد جدول تنسيق القبول بالمدارس الثانوية للتمريض 2025/2026    رئيس الوزراء يتفقد مشروع إنشاء محور السادات "كوبري 45" بالإسكندرية    ضبط قضايا اتجار في العملات ب«السوق السوداء» بقيمة 7 ملايين جنيه    تحولات الوعي الجمالي.. افتتاح أولى جلسات المحور الفكري ل المهرجان القومي للمسرح (صور)    «الأوقاف» تُطلق الأسبوع الثقافي ب27 مسجدًا على مستوى الجمهورية    ضبط تشكيل عصابي للنصب على المواطنين عبر منصة إلكترونية بمسمى "VSA"    مدبولي يستعرض مقترحا للشراكة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لإنشاء شبكة رعاية صحية بالإسكندرية    توزيع 977 جهاز توليد الأكسجين على مرضى التليفات الرئوية «منزلي»    الأهلي يبدأ اتخاذ إجراءات قانونية ضد مصطفى يونس بحضور الخطيب (تفاصيل)    نجم الزمالك السابق يفجر مفاجأة: فاروق جعفر أهلاوي    نتنياهو ينتقد خطط الجيش ل"المدينة الإنسانية" في رفح    عمره 92 عامًا.. الرئيس الكاميروني بول بيا يعلن ترشحه لولاية ثامنة    الطعون الانتخابية تتصدر مشهد انتخابات الشيوخ بدمياط    قبل «درويش».. 3 أفلام جمعت عمرو يوسف ودينا الشربيني    «نيابة الغردقة» تُصرح بدفن جثة لاعب «الفلاي بورد» ونقله لدفنه ببلدته بالمنوفية    رمضان عبد المعز: النبي غرس العقيدة في سنوات مكة.. والتشريعات نزلت في المدينة    ماذا قال رئيس مجلس الدولة لوزير الأوقاف خلال زيارته؟    ندى ثابت: كلمة السيسي بقمة الاتحاد الأفريقي عكست التزام مصر بدعم منظومة الأمن في القارة    الخطيب يتفاوض مع بتروجت لضم حامد حمدان.. ومدرب الزمالك السابق يعلق: داخل عشان يبوظ    «الكشف والعلاج مجانًا».. «الصحة» تواصل حملتها للوقاية من سرطان عنق الرحم ضمن المبادرة الرئاسية    من بكوية الملك إلى تصفيق المهرجانات، يوسف وهبي فنان الشعب وأسطورة المسرح    هشام جمال: "سمعت صوت حسين الجسمي أول مرة وأنا عندي 14 سنة"    موعد شهر رمضان المبارك 2026: فاضل فد ايه على الشهر الكريم؟    مستشار الرئيس للصحة: الالتهاب السحائي نادر الحدوث بمصر    كم سجل سعر الريال السعودي اليوم الاثنين 14-7-2025 بداية التعاملات الصباحية؟    ترامب يعرب أن أمله في التوصل إلى تسوية بشأن غزة خلال الأسبوع المقبل    «انت الخسران».. جماهير الأهلي تنفجر غضبًا ضد وسام أبوعلي بعد التصرف الأخير    بداية فترة من النجاح المتصاعد.. حظ برج الدلو اليوم 14 يوليو    "عندي 11 سنة وأؤدي بعض الصلوات هل آخذ عليها ثواب؟".. أمين الفتوى يُجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اللهم أرِح قلبي بما أنت به أعلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النزعة الواقعية فى سردية عبده خال: من نقل الواقع إلى نقده
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 11 - 07 - 2025


د.ياسين الشعرى
يعيد كتاب «عين الواقع: بحوث فى سرديات عبده خال»، الصادر عن دار رشم، للباحثة التونسية بسمة عروس إثارة قضية نقدية جوهرية، هى قضية العلاقة بين السرد والواقع، إذ تروم الباحثة الكشف عن كيفية تمثيل الواقع فى سردية عبده خال، من منطلق لا يدعى إمكانية نقل الواقع وتضمينه فى هذه السردية كما هو، فعبده خال لا يرمى إلى تقديم نقل أمين للعالم الواقعى بل بناء عالم موازٍ له، يثبت قدرة النصوص السردية على تأسيس جمالية معبرة عن واقعها الذى تصوغه بواسطة اللغة، وإمكاناتها المتعددة، فتخلق عالما قائم الذات ينبنى على كثير من تفاصيل الواقع وأبعاده التاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية...، التى تنتقى منها ما يلائم سياقات الإبداع الجمالية، ورؤى المبدع ومقاصده. فبواسطة الانتقاء تُحوِّل هذه الأعمال مواضيعها من معطيات واقعية إلى معطيات تخييلية، ما يعنى هنا أن الانتقاء (فعل تخييلى) [2]، يحولها من كونها عملية مرآوية عاكسة لمعطيات مرجعية إلى عملية تخييلية تعيد بناء معطيات الواقع وصياغة تفاصيله وتشكيلها فى شكل جديد قد يكون مفارقا للمعيش [3]، ولكنه يهجس بالرغبة فى نقده وتغييره.
تثبت الباحثة أن روايات عبده خال وفية لخطها العام وللفلسفة العامة المؤطرة للعملية الإبداعية عنده، فرغم ما طرأ على تجربته الإبداعية من تحول، إلا أنها تبقى أعمالا واعية بمقتضيات المرحلة الراهنة، على غرار باقى الأعمال الأدبية السعودية، انتهجت نهج التمثيل الواقعى ونقد قضايا المجتمع، ورصد التغيير الحادث فى البيئات الاجتماعية ودوره فى تبدل القيم والذهنيات، وتشخيص مآسى الإنسان وقضاياه الوجودية، وتقديم تفاصيل الواقع السرى والمعلن، بواسطة آليات تعبيرية وملامح جمالية لا تعوزها الحداثة والتجريب، ومنها التفلّت السردى وفتنة اللامرئى وتكثير المعابر السردية وتوظيف اللغز البوليسي...، مبينا بذلك أن مسلك التحولات فى الرواية، وفى القصة القصيرة أيضا، يجب أن يلتفت إلى المشاغل الإنسانية فى مختلف أبعادها ويحاول الإحاطة بها ومعالجتها، ويظلَّ منشدا إلى الواقع، بكل ما يمور فيه من تحولات وتبدلات. وتُرجع الباحثة هذا الانشغال بالواقع وقضاياه فى أعمال عبده خال إلى رغبة الكاتب فى سبر أغوار الذات الإنسانية وفهم أزماتها الوجودية وإشكالياتها المستعصية وقضاياها الشائكة، مستندا فى ذلك إلى مستويات إبداعية متعددة، واقعية وغرائبية وبوليسية...، تعبر عن رؤية إبداعية جديدة، بقدر ما تنهض على الرغبة فى تجاوز المألوف والمعتاد، بقدر ما تخدم رؤية فكرية ونسقا فلسفيا قائما على مناوشة إشكالات الواقع وقضاياه، بأسلوب سردى، يحتضن أسئلة جديدة، لا تنفصل عن مشاغل الإنسان ومآزق هويته. ويمكن فحص العلاقة بين سردية عبده خال والواقع كما تتجلى من خلال هذا الكتاب فى العناصر الآتية:
لغز الواقع
تربط الكاتبة فى دراستها لرواية «فسوق» بين اللغز والواقع، وتعتبر اللغز تقنية روائية تفهم فى ضوء البحث عن مسالك جديدة للكتابة الروائية، واختيارا ينسجم مع طبيعة السؤال الذى تنهض عليه والمناخ العام الذى يحتضن الرواية فى الجزيرة العربية.
وترى أن الكاتب لم يستخدم اللغز لكتابة رواية بوليسية، وإنما توسله باعتباره الشكل الأنسب للتعبير عن رؤى وطرح قضايا اجتماعية لم يكن ليجترئ على طرحها خارج الغلاف المجازى للغز.
فقد ساعده توظيف اللغز على النبش عن جزء من الواقع وتعريته بعيدا عن صفة المباشرة فى الطرح، حتى يتسنى له تمرير إدانته المطلقة لجوانب من الحياة فى نظمها الأساسية وهيكلتها العامة، فقد تعامل الكاتب مع قضية هروب فتاة من قبرها باعتبارها مشكلا اجتماعيا أكثر مما وقع التعامل معها بوصفها جريمة أو مكونا من مكونات حبكة بوليسية.
ويستهدف من وراء ذلك إدانة الواقع وتحليل الأمراض الاجتماعية المتسببة فى الجرائم، بما يحدث نوعا من العدول عن مسار الرواية البوليسية إلى نوع من الكتابة الواقعية التى تتوسل اللغز لتضيء جانبا من جوانب الحياة المسكوت عنه. ما يعنى أن مقصد الكاتب لا ينفصل عن التزامه بقضايا مجتمعه وانطلاقه من رغبة فى التغيير، فاللغز البوليسى فى الرواية ليس موضوعا مقصودا فى ذاته أو قواما لجسد الرواية، إنه فكرة التقويض التى تنتج بصورة طبيعية عما يعج فى الواقع من مظاهر الخلل والمأساة واللامعنى، وتكون معادلا موضوعيا لما يعتمل فيه من تفاصيل وأحداث، أى إن اللغز عند عبده خال فى رواية «فسوق» من صميم الواقع، إنه منبثق من قضاياه وإشكالاته المستعصية، وغير منفصل عن هموم الناس ومشاكلهم.
الواقع والملامح الشعبية
ترى الكاتبة وهى تدرس اللاوعى الشعبى فى رواية «لوعة الغاوية» أن الملامح الشعبية والعامية قد تفهم على نوع من التوظيف والاستلهام، أو تؤول على نزعة واقعية، حتمتها طبيعة البيئة التى اختارها المؤلف مناخا لعوالمه الروائية ومتخيلا لخطابه السردى.
فقد استحضر الطقوس الشعبية فى الرواية للتنديد ببعض العادات السيئة، واستعملها لمساءلة كثير من العادات والمظاهر الفولكلورية ومحاولة الإنصات للمكون البعيد الذى قلما يظهر عند تصفح الملامح الشكلية والطقوسية للتراث الشعبى.
هذا التصور يثبت أن الباحثة لا تفصل الرواية عن فضائها وسياقاتها، فهى واعية بأن ما يشكل الهوية الجمالية لرواية «لوعة الغاوية» هو هذا الانفتاح على الواقع واستحضار مختلف ملامحه، ولكنه استحضار لا يكتفى بترديدها ونسخها، بل يتجاوز ذلك إلى نقدها ومساءلتها، والإنصات لأبعادها المختلفة، تقودها فى ذلك نزعة شعبوية غايتها الانتصار لفئة منسية أو مهملة من المجتمع، تُعرض فى ثوب واقعى بلبوس شعبى مطعم ببعض النفحات الفلكلورية، لكنه ينهل فى جوهره من رؤية شعبوية المنزع، تصور حياة الناس البسطاء ومهجرى الحرب، وتتعاطف مع المساكين، ممن أنهكتهم سلطة العادات والتقاليد.
وقد قدم الكاتب ذلك فى شكل يقترب من الالتزام الإيديولوجى والفنى، معبرا بذلك عن اصطفافه فى صف الضعفاء والبسطاء من الناس.
لقد ربطت الباحثة فى تحليلها لهذه الرواية توظيف عبده خال للملامح الشعبية فى بناء عالمه الروائى برؤية إيديولوجية تقود مفهوم الكتابة عنده، وهى رؤية لا تكتفى بعرض الكائن، وإنما تسائله، وتسعى إلى الحكم عليه، ومن ثمة إصلاحه وتعديله. ما يعنى أن الكتابة عند عبده خال ليست انعكاسا للواقع بعاداته وتقاليده فقط، بل هى رؤية إيديولوجية تهجس بطموح نقدى يستجلى أمراض المجتمع، ويعرض رؤية الذات لواقعها.
واقعية الغريب
هل يمكن أن يكون الغريب واقعيا؟ قد يبدو السؤال لأول وهلة مربكا لمن دأب على اعتبار الواقع والغريب عالمين مختلفين، فالواقع يشير إلى المألوف والمعقول، بينما قد يقترن الغريب بالخارق وغير المألوف، لكن الكاتبة بسمة عروس تثبت بدراستها لأعمال عبده خال أن الغريب ليس إلا واقعا يتخفى وراء قناع الخارق وغير المألوف، فرغم أن قصص عبده خال توظف الثيمات الغرائبية إلا أنها لا تنفصل عن الواقع، ولا تبتعد عن طرح قضاياه، بل هو متجذر فيها ومتغلغل فى مستوياتها.
فالتغريب ليس إلا بؤرا للتحول المفاجئ داخل أحداث واقعية عادية أو صور من صور اللامعقول الذى يسرى فى صميم معطيات واقع معقول مألوف ومقبول فى الأذهان. وهذا الاتصال بين الغريب والواقع هو الذى أدى بالباحثة إلى أن تتصور أن الواقع نفسه فى إبداع عبده خال هو الغرائبى، وأن الغرائبية منبثقة أساسا من بؤر واقعية وثيقة الصلة بالعالم المعيش والواقع اليومى الصاخب والمعقد لفئات اجتماعية محرومة أو مأزومة، يستند إليها الكاتب لتعميق التشريح الواقعى الدقيق والعميق.
وبالتالى فهى من صنف التغريب الواقعى الذى يقترن بخصائص البيئة التى يصورها المؤلف، لأنها مرتبطة فى العمق بعقلية ونفسية جماعية وطريقة فى تمثل الأشياء والحكم عليها، فهمة المبدع منصبة على التوصيف الدقيق للشخصية الاجتماعية فى مختلف أبعادها الواقعية والاجتماعية والنفسية.
وهذا ما يظهر للكاتبة من خلال تحليل قصة «لا أحد فى القلب لا أحد فى الطرقات» التى رغم طابعها التغريبى إلا أنها تنصرف فى اتجاه تصوير الشخصية فى محيطها الاجتماعى، فحتى ما يكون من تصوير لعالمها الداخلى، وحفر فى بواطنها، حفرا يقترن بما هو غرائبى، يبقى فى دائرة اليومى، فى مظاهره المعروفة المألوفة.
ويظهر هذا الاقتران بين الواقع والتغريب أيضا فى مجموعة «الأوغاد يضحكون» التى تنماز ببعض الملامح التى يغدو بفعلها التغريب مماثلا للطبيعى وإن كان فى جوهره صادرا عن فعل خارق. فالسرد فى هذه المجموعة يشاكل الواقع، ويعرض لمحات من حياة واقعية تشبه الحياة التى يعرفها القارئ، ثم يباغت بما يخلخل هذه المراجع، ويباغت أكثر بأن هذه الخلخلة فى ذهنه هو فقط، وليس فى أذهان الفواعل السردية التى تتفاعل معها إيجابا لا سلبا.
وهكذا، يرتبط التغريب ارتباطا وثيقا بالواقع فى سردية عبده خال، يستعين به الكاتب لفهم الواقع والانغراس فى بناه الأكثر دقة وعمقا.
وهذا ما يفسر عدم الإغراق فى الثيمات العجائبية وورودها مثل اللمحات أو النفحات التى تعترض الأحداث الواقعية، مشكلة عدولا عن مسارها، فضلا عن دلالات هذا التوظيف العجائبى التى تبقى منشدة إلى نقد الواقع ومظاهر منه أكثر من غوصها فى عمق الواقع السحرى.
لقد أثبتت الباحثة أن الصلة بين القص والنقد الإجتماعى وثيقة جدا فى سرد عبده خال، لا تقتصر على اتخاذ الواقع معينا ثريا بالنماذج البشرية والثيمات القصصية، فهى تشكل المنزع الغالب على النصوص أنى طوف الباحث فى مجالات التغريب أو العجائبية، بل ربما كانت هى الأصل الملهم لفهم الغرابة ووجوهها المختلفة.
الموت من الميتافيزيقا إلى الواقع
ترى بسمة عروس فى تحليلها لرواية «الموت يمر من هنا» أن الموت واقع قائم وليس موضوعا ينتمى إلى عالم ما بعد واقعى أو ما فوق طبيعى، وأنه ليس حالا طارئة أو حدثا استثنائيا فى الرواية، لأنه أضحى شبيها بالواقع الأليف للشخصيات، تعايشوا معه وفهموه.
فالرواية كلها تفكير فى ماهية الموت وسبر لمفهومه. ولذلك فاستدعاء الصور الطبيعية وغيرها مما يمكن أن يعكس العدمية والموات ما هى إلا وسائل تبين أن الموت ليس موضوعا مفارقا للواقع الذى تعيشه شخوص الرواية، وعليه فإنه لم يعد مفهوما متعاليا محفوفا بالخوف والتوجس، بل صار هو والواقع سيان. إنه نوع من المعرفة التى تستنتج من الواقع المادى وتحديدا من البيئة المخصوصة التى يعيش الأفراد فى كنفها، ومعناه نوع من إحلال الميتافيزيقا فى الكون الفيزيائى الذى قُدت عناصره من كثافة المخيلة العدمية أو الموتية.
وبناء على ذلك، تُدرج الكاتبة هذه الرواية ضمن الخطاب الروائى الملتزم بقضية المنزلة البشرية وهشاشة الوجود الإنسانى ومعاناة الإنسان بوصفه حلقة من أضعف الحلقات ضمن سلسلة الموجودات فى الكون الرحب.
أعاد فيها عبده خال تعريف الموت ببيان أن انتفاء العلامات الحيوية فى الجسد أو فى الطبيعة ليس شرطا للموت، لأن الموت الحقيقى هو ذلك الذى يتجلى فى الحياة، وتكشف عنه الوضعيات العنيفة والعبثية التى تعيش فى ظلها الشخصيات.
ولذلك لا تختلف عدمية الواقع فى نظر الكاتبة كثيرا عن فجائعية فكرة الموت، فالموت فى هذه الرواية يغدو مؤشرا على موت واقعى بيئى تتعايش معه شخصيات الرواية وتلمسه فى بيئتها.
على سبيل الختم
سلطت بسمة عروس فى كتابها «عين الواقع: بحوث فى سردية عبده خال» الضوء على خصوصيات الكتابة عند عبده خال، وكشفت عن دورها فى تمثيل الواقع وتصويره ونقده، فى ضوء معطيات مستمدة مما يمور فى واقع المبدع من تغيرات وتحولات...، مستندة فى ذلك إلى منظورات ومقاربات منهجية متعددة، أفرزتها طبيعة الأعمال السردية المدروسة وخصوصياتها الفنية، كالنقد البيئى والسرديات التأويلية والتحليل النفسى والشعرية...، مكنتها من تجاوز المنظورات الأحادية، مثبتة بذلك تعددية المرجعيات والمنابع التى استند إليها الكاتب فى تمثيل الواقع وتصويره (الثقافة الشعبية، التغريب، اللغز البوليسى...).
بناء على ذلك، قدمت عبده خال فى صورة كاتب ملتزم بواقعه رغم ما يظهر من تجاوزه له فى كثير من أعماله بارتياده لفضاءات الغرابة والتعجيب، يسخر إمكاناته وقدراته الفنية والإبداعية لتمثيل الواقعى وتصوير هموم الناس ومشاغلهم.
مما يشير بوضوح إلى تداخل الوظيفة الإصلاحية النقدية مع الوظيفة الإبداعية فى الكتابة وتجاوز الكاتب تصوير الواقع إلى الحكم عليه، إذ إنه يعمل على رصد الواقع رصدا واعيا ينهض على اتخاذ موقف من المجتمع ومؤسساته. ومن هنا يتبين لنا مدى انسجام عنوان الكتاب «وعى الواقع» مع المشروع الإبداعى لعبده خال، الذى لا يظهر به مرآة تكتفى بعكس الواقع ونقله، وإنما عين تترصد هذا الواقع، وتتبصر مآزقه ونتوءاته وتستجلى أمراضه الاجتماعية سعيا إلى تغييره وإصلاحه. إنها عين نفاذة تستغور الواقع، وتستظهر حيثياته وتفاصيله المضمرة والمعلنة، مفصحة بذلك عن رغبة فى التجاوز والممانعة، صادرة عن ذات ملمة بواقعها، متحكمة فى أذواتها الفنية وأنهاج أسلوبها.
هوامش:
[1] بسمة عروس، عين الواقع: بحوث فى سردية عبده خال، دار رشم للنشر والتوزيع، ط1، 2024.
[2] فولفغانغ إيزر، التخييلى والخيالى من منظور الأنطربولوجية الأدبية، ترجمة حميد لحمدانى والجيلالى الكدية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1998، ص 13.
[3] يشير سعيد بنكراد فى معرض تقديمه لكتاب تأملات فى السرد الروائى لأمبرتو إيكو إلى أن النص السردى «يستند من أجل بناء سياقاته الخاصة إلى عمليات انتقاء لإمكانات يوفرها المخزون الدلالى الذى يفرزه السلوك الإنسانى، ولا وجود لنص خارج هذا المخزون أو ضده أو فى انفصال عنه.
إلا أن هذا الانتقاء ليس أحاديا وبسيطا، فهو يشير من جهة إلى الكون الدلالى الذى تم اقتطاعه من النسق الدلالى الشامل، وتحول إلى برنامج للفعل والتخطيب وفعل التلقى (ما يسميه إيكو «الموسوعة»). ويشير من جهة ثانية إلى العالم (المخصوص) الذى تبنيه الرواية فى انفصال عن العوالم الواقعية، فلا يمكن للعالم التخييلى أن يستقل بذاته إلا إذا شيد عوالمه استنادا إلى قوانينه هو، لا إلى قوانين الواقع».
ينظر: (أمبرتو إيكو، تأملات فى السرد الروائى، ترجمة سعيد بنكراد، مقدمة الترجمة، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء- المغرب، بيروت- لبنان، ط2، 2015، ص 9- 10).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.