د.ياسين الشعرى يعيد كتاب «عين الواقع: بحوث فى سرديات عبده خال»، الصادر عن دار رشم، للباحثة التونسية بسمة عروس إثارة قضية نقدية جوهرية، هى قضية العلاقة بين السرد والواقع، إذ تروم الباحثة الكشف عن كيفية تمثيل الواقع فى سردية عبده خال، من منطلق لا يدعى إمكانية نقل الواقع وتضمينه فى هذه السردية كما هو، فعبده خال لا يرمى إلى تقديم نقل أمين للعالم الواقعى بل بناء عالم موازٍ له، يثبت قدرة النصوص السردية على تأسيس جمالية معبرة عن واقعها الذى تصوغه بواسطة اللغة، وإمكاناتها المتعددة، فتخلق عالما قائم الذات ينبنى على كثير من تفاصيل الواقع وأبعاده التاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية...، التى تنتقى منها ما يلائم سياقات الإبداع الجمالية، ورؤى المبدع ومقاصده. فبواسطة الانتقاء تُحوِّل هذه الأعمال مواضيعها من معطيات واقعية إلى معطيات تخييلية، ما يعنى هنا أن الانتقاء (فعل تخييلى) [2]، يحولها من كونها عملية مرآوية عاكسة لمعطيات مرجعية إلى عملية تخييلية تعيد بناء معطيات الواقع وصياغة تفاصيله وتشكيلها فى شكل جديد قد يكون مفارقا للمعيش [3]، ولكنه يهجس بالرغبة فى نقده وتغييره. تثبت الباحثة أن روايات عبده خال وفية لخطها العام وللفلسفة العامة المؤطرة للعملية الإبداعية عنده، فرغم ما طرأ على تجربته الإبداعية من تحول، إلا أنها تبقى أعمالا واعية بمقتضيات المرحلة الراهنة، على غرار باقى الأعمال الأدبية السعودية، انتهجت نهج التمثيل الواقعى ونقد قضايا المجتمع، ورصد التغيير الحادث فى البيئات الاجتماعية ودوره فى تبدل القيم والذهنيات، وتشخيص مآسى الإنسان وقضاياه الوجودية، وتقديم تفاصيل الواقع السرى والمعلن، بواسطة آليات تعبيرية وملامح جمالية لا تعوزها الحداثة والتجريب، ومنها التفلّت السردى وفتنة اللامرئى وتكثير المعابر السردية وتوظيف اللغز البوليسي...، مبينا بذلك أن مسلك التحولات فى الرواية، وفى القصة القصيرة أيضا، يجب أن يلتفت إلى المشاغل الإنسانية فى مختلف أبعادها ويحاول الإحاطة بها ومعالجتها، ويظلَّ منشدا إلى الواقع، بكل ما يمور فيه من تحولات وتبدلات. وتُرجع الباحثة هذا الانشغال بالواقع وقضاياه فى أعمال عبده خال إلى رغبة الكاتب فى سبر أغوار الذات الإنسانية وفهم أزماتها الوجودية وإشكالياتها المستعصية وقضاياها الشائكة، مستندا فى ذلك إلى مستويات إبداعية متعددة، واقعية وغرائبية وبوليسية...، تعبر عن رؤية إبداعية جديدة، بقدر ما تنهض على الرغبة فى تجاوز المألوف والمعتاد، بقدر ما تخدم رؤية فكرية ونسقا فلسفيا قائما على مناوشة إشكالات الواقع وقضاياه، بأسلوب سردى، يحتضن أسئلة جديدة، لا تنفصل عن مشاغل الإنسان ومآزق هويته. ويمكن فحص العلاقة بين سردية عبده خال والواقع كما تتجلى من خلال هذا الكتاب فى العناصر الآتية: لغز الواقع تربط الكاتبة فى دراستها لرواية «فسوق» بين اللغز والواقع، وتعتبر اللغز تقنية روائية تفهم فى ضوء البحث عن مسالك جديدة للكتابة الروائية، واختيارا ينسجم مع طبيعة السؤال الذى تنهض عليه والمناخ العام الذى يحتضن الرواية فى الجزيرة العربية. وترى أن الكاتب لم يستخدم اللغز لكتابة رواية بوليسية، وإنما توسله باعتباره الشكل الأنسب للتعبير عن رؤى وطرح قضايا اجتماعية لم يكن ليجترئ على طرحها خارج الغلاف المجازى للغز. فقد ساعده توظيف اللغز على النبش عن جزء من الواقع وتعريته بعيدا عن صفة المباشرة فى الطرح، حتى يتسنى له تمرير إدانته المطلقة لجوانب من الحياة فى نظمها الأساسية وهيكلتها العامة، فقد تعامل الكاتب مع قضية هروب فتاة من قبرها باعتبارها مشكلا اجتماعيا أكثر مما وقع التعامل معها بوصفها جريمة أو مكونا من مكونات حبكة بوليسية. ويستهدف من وراء ذلك إدانة الواقع وتحليل الأمراض الاجتماعية المتسببة فى الجرائم، بما يحدث نوعا من العدول عن مسار الرواية البوليسية إلى نوع من الكتابة الواقعية التى تتوسل اللغز لتضيء جانبا من جوانب الحياة المسكوت عنه. ما يعنى أن مقصد الكاتب لا ينفصل عن التزامه بقضايا مجتمعه وانطلاقه من رغبة فى التغيير، فاللغز البوليسى فى الرواية ليس موضوعا مقصودا فى ذاته أو قواما لجسد الرواية، إنه فكرة التقويض التى تنتج بصورة طبيعية عما يعج فى الواقع من مظاهر الخلل والمأساة واللامعنى، وتكون معادلا موضوعيا لما يعتمل فيه من تفاصيل وأحداث، أى إن اللغز عند عبده خال فى رواية «فسوق» من صميم الواقع، إنه منبثق من قضاياه وإشكالاته المستعصية، وغير منفصل عن هموم الناس ومشاكلهم. الواقع والملامح الشعبية ترى الكاتبة وهى تدرس اللاوعى الشعبى فى رواية «لوعة الغاوية» أن الملامح الشعبية والعامية قد تفهم على نوع من التوظيف والاستلهام، أو تؤول على نزعة واقعية، حتمتها طبيعة البيئة التى اختارها المؤلف مناخا لعوالمه الروائية ومتخيلا لخطابه السردى. فقد استحضر الطقوس الشعبية فى الرواية للتنديد ببعض العادات السيئة، واستعملها لمساءلة كثير من العادات والمظاهر الفولكلورية ومحاولة الإنصات للمكون البعيد الذى قلما يظهر عند تصفح الملامح الشكلية والطقوسية للتراث الشعبى. هذا التصور يثبت أن الباحثة لا تفصل الرواية عن فضائها وسياقاتها، فهى واعية بأن ما يشكل الهوية الجمالية لرواية «لوعة الغاوية» هو هذا الانفتاح على الواقع واستحضار مختلف ملامحه، ولكنه استحضار لا يكتفى بترديدها ونسخها، بل يتجاوز ذلك إلى نقدها ومساءلتها، والإنصات لأبعادها المختلفة، تقودها فى ذلك نزعة شعبوية غايتها الانتصار لفئة منسية أو مهملة من المجتمع، تُعرض فى ثوب واقعى بلبوس شعبى مطعم ببعض النفحات الفلكلورية، لكنه ينهل فى جوهره من رؤية شعبوية المنزع، تصور حياة الناس البسطاء ومهجرى الحرب، وتتعاطف مع المساكين، ممن أنهكتهم سلطة العادات والتقاليد. وقد قدم الكاتب ذلك فى شكل يقترب من الالتزام الإيديولوجى والفنى، معبرا بذلك عن اصطفافه فى صف الضعفاء والبسطاء من الناس. لقد ربطت الباحثة فى تحليلها لهذه الرواية توظيف عبده خال للملامح الشعبية فى بناء عالمه الروائى برؤية إيديولوجية تقود مفهوم الكتابة عنده، وهى رؤية لا تكتفى بعرض الكائن، وإنما تسائله، وتسعى إلى الحكم عليه، ومن ثمة إصلاحه وتعديله. ما يعنى أن الكتابة عند عبده خال ليست انعكاسا للواقع بعاداته وتقاليده فقط، بل هى رؤية إيديولوجية تهجس بطموح نقدى يستجلى أمراض المجتمع، ويعرض رؤية الذات لواقعها. واقعية الغريب هل يمكن أن يكون الغريب واقعيا؟ قد يبدو السؤال لأول وهلة مربكا لمن دأب على اعتبار الواقع والغريب عالمين مختلفين، فالواقع يشير إلى المألوف والمعقول، بينما قد يقترن الغريب بالخارق وغير المألوف، لكن الكاتبة بسمة عروس تثبت بدراستها لأعمال عبده خال أن الغريب ليس إلا واقعا يتخفى وراء قناع الخارق وغير المألوف، فرغم أن قصص عبده خال توظف الثيمات الغرائبية إلا أنها لا تنفصل عن الواقع، ولا تبتعد عن طرح قضاياه، بل هو متجذر فيها ومتغلغل فى مستوياتها. فالتغريب ليس إلا بؤرا للتحول المفاجئ داخل أحداث واقعية عادية أو صور من صور اللامعقول الذى يسرى فى صميم معطيات واقع معقول مألوف ومقبول فى الأذهان. وهذا الاتصال بين الغريب والواقع هو الذى أدى بالباحثة إلى أن تتصور أن الواقع نفسه فى إبداع عبده خال هو الغرائبى، وأن الغرائبية منبثقة أساسا من بؤر واقعية وثيقة الصلة بالعالم المعيش والواقع اليومى الصاخب والمعقد لفئات اجتماعية محرومة أو مأزومة، يستند إليها الكاتب لتعميق التشريح الواقعى الدقيق والعميق. وبالتالى فهى من صنف التغريب الواقعى الذى يقترن بخصائص البيئة التى يصورها المؤلف، لأنها مرتبطة فى العمق بعقلية ونفسية جماعية وطريقة فى تمثل الأشياء والحكم عليها، فهمة المبدع منصبة على التوصيف الدقيق للشخصية الاجتماعية فى مختلف أبعادها الواقعية والاجتماعية والنفسية. وهذا ما يظهر للكاتبة من خلال تحليل قصة «لا أحد فى القلب لا أحد فى الطرقات» التى رغم طابعها التغريبى إلا أنها تنصرف فى اتجاه تصوير الشخصية فى محيطها الاجتماعى، فحتى ما يكون من تصوير لعالمها الداخلى، وحفر فى بواطنها، حفرا يقترن بما هو غرائبى، يبقى فى دائرة اليومى، فى مظاهره المعروفة المألوفة. ويظهر هذا الاقتران بين الواقع والتغريب أيضا فى مجموعة «الأوغاد يضحكون» التى تنماز ببعض الملامح التى يغدو بفعلها التغريب مماثلا للطبيعى وإن كان فى جوهره صادرا عن فعل خارق. فالسرد فى هذه المجموعة يشاكل الواقع، ويعرض لمحات من حياة واقعية تشبه الحياة التى يعرفها القارئ، ثم يباغت بما يخلخل هذه المراجع، ويباغت أكثر بأن هذه الخلخلة فى ذهنه هو فقط، وليس فى أذهان الفواعل السردية التى تتفاعل معها إيجابا لا سلبا. وهكذا، يرتبط التغريب ارتباطا وثيقا بالواقع فى سردية عبده خال، يستعين به الكاتب لفهم الواقع والانغراس فى بناه الأكثر دقة وعمقا. وهذا ما يفسر عدم الإغراق فى الثيمات العجائبية وورودها مثل اللمحات أو النفحات التى تعترض الأحداث الواقعية، مشكلة عدولا عن مسارها، فضلا عن دلالات هذا التوظيف العجائبى التى تبقى منشدة إلى نقد الواقع ومظاهر منه أكثر من غوصها فى عمق الواقع السحرى. لقد أثبتت الباحثة أن الصلة بين القص والنقد الإجتماعى وثيقة جدا فى سرد عبده خال، لا تقتصر على اتخاذ الواقع معينا ثريا بالنماذج البشرية والثيمات القصصية، فهى تشكل المنزع الغالب على النصوص أنى طوف الباحث فى مجالات التغريب أو العجائبية، بل ربما كانت هى الأصل الملهم لفهم الغرابة ووجوهها المختلفة. الموت من الميتافيزيقا إلى الواقع ترى بسمة عروس فى تحليلها لرواية «الموت يمر من هنا» أن الموت واقع قائم وليس موضوعا ينتمى إلى عالم ما بعد واقعى أو ما فوق طبيعى، وأنه ليس حالا طارئة أو حدثا استثنائيا فى الرواية، لأنه أضحى شبيها بالواقع الأليف للشخصيات، تعايشوا معه وفهموه. فالرواية كلها تفكير فى ماهية الموت وسبر لمفهومه. ولذلك فاستدعاء الصور الطبيعية وغيرها مما يمكن أن يعكس العدمية والموات ما هى إلا وسائل تبين أن الموت ليس موضوعا مفارقا للواقع الذى تعيشه شخوص الرواية، وعليه فإنه لم يعد مفهوما متعاليا محفوفا بالخوف والتوجس، بل صار هو والواقع سيان. إنه نوع من المعرفة التى تستنتج من الواقع المادى وتحديدا من البيئة المخصوصة التى يعيش الأفراد فى كنفها، ومعناه نوع من إحلال الميتافيزيقا فى الكون الفيزيائى الذى قُدت عناصره من كثافة المخيلة العدمية أو الموتية. وبناء على ذلك، تُدرج الكاتبة هذه الرواية ضمن الخطاب الروائى الملتزم بقضية المنزلة البشرية وهشاشة الوجود الإنسانى ومعاناة الإنسان بوصفه حلقة من أضعف الحلقات ضمن سلسلة الموجودات فى الكون الرحب. أعاد فيها عبده خال تعريف الموت ببيان أن انتفاء العلامات الحيوية فى الجسد أو فى الطبيعة ليس شرطا للموت، لأن الموت الحقيقى هو ذلك الذى يتجلى فى الحياة، وتكشف عنه الوضعيات العنيفة والعبثية التى تعيش فى ظلها الشخصيات. ولذلك لا تختلف عدمية الواقع فى نظر الكاتبة كثيرا عن فجائعية فكرة الموت، فالموت فى هذه الرواية يغدو مؤشرا على موت واقعى بيئى تتعايش معه شخصيات الرواية وتلمسه فى بيئتها. على سبيل الختم سلطت بسمة عروس فى كتابها «عين الواقع: بحوث فى سردية عبده خال» الضوء على خصوصيات الكتابة عند عبده خال، وكشفت عن دورها فى تمثيل الواقع وتصويره ونقده، فى ضوء معطيات مستمدة مما يمور فى واقع المبدع من تغيرات وتحولات...، مستندة فى ذلك إلى منظورات ومقاربات منهجية متعددة، أفرزتها طبيعة الأعمال السردية المدروسة وخصوصياتها الفنية، كالنقد البيئى والسرديات التأويلية والتحليل النفسى والشعرية...، مكنتها من تجاوز المنظورات الأحادية، مثبتة بذلك تعددية المرجعيات والمنابع التى استند إليها الكاتب فى تمثيل الواقع وتصويره (الثقافة الشعبية، التغريب، اللغز البوليسى...). بناء على ذلك، قدمت عبده خال فى صورة كاتب ملتزم بواقعه رغم ما يظهر من تجاوزه له فى كثير من أعماله بارتياده لفضاءات الغرابة والتعجيب، يسخر إمكاناته وقدراته الفنية والإبداعية لتمثيل الواقعى وتصوير هموم الناس ومشاغلهم. مما يشير بوضوح إلى تداخل الوظيفة الإصلاحية النقدية مع الوظيفة الإبداعية فى الكتابة وتجاوز الكاتب تصوير الواقع إلى الحكم عليه، إذ إنه يعمل على رصد الواقع رصدا واعيا ينهض على اتخاذ موقف من المجتمع ومؤسساته. ومن هنا يتبين لنا مدى انسجام عنوان الكتاب «وعى الواقع» مع المشروع الإبداعى لعبده خال، الذى لا يظهر به مرآة تكتفى بعكس الواقع ونقله، وإنما عين تترصد هذا الواقع، وتتبصر مآزقه ونتوءاته وتستجلى أمراضه الاجتماعية سعيا إلى تغييره وإصلاحه. إنها عين نفاذة تستغور الواقع، وتستظهر حيثياته وتفاصيله المضمرة والمعلنة، مفصحة بذلك عن رغبة فى التجاوز والممانعة، صادرة عن ذات ملمة بواقعها، متحكمة فى أذواتها الفنية وأنهاج أسلوبها. هوامش: [1] بسمة عروس، عين الواقع: بحوث فى سردية عبده خال، دار رشم للنشر والتوزيع، ط1، 2024. [2] فولفغانغ إيزر، التخييلى والخيالى من منظور الأنطربولوجية الأدبية، ترجمة حميد لحمدانى والجيلالى الكدية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1998، ص 13. [3] يشير سعيد بنكراد فى معرض تقديمه لكتاب تأملات فى السرد الروائى لأمبرتو إيكو إلى أن النص السردى «يستند من أجل بناء سياقاته الخاصة إلى عمليات انتقاء لإمكانات يوفرها المخزون الدلالى الذى يفرزه السلوك الإنسانى، ولا وجود لنص خارج هذا المخزون أو ضده أو فى انفصال عنه. إلا أن هذا الانتقاء ليس أحاديا وبسيطا، فهو يشير من جهة إلى الكون الدلالى الذى تم اقتطاعه من النسق الدلالى الشامل، وتحول إلى برنامج للفعل والتخطيب وفعل التلقى (ما يسميه إيكو «الموسوعة»). ويشير من جهة ثانية إلى العالم (المخصوص) الذى تبنيه الرواية فى انفصال عن العوالم الواقعية، فلا يمكن للعالم التخييلى أن يستقل بذاته إلا إذا شيد عوالمه استنادا إلى قوانينه هو، لا إلى قوانين الواقع». ينظر: (أمبرتو إيكو، تأملات فى السرد الروائى، ترجمة سعيد بنكراد، مقدمة الترجمة، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء- المغرب، بيروت- لبنان، ط2، 2015، ص 9- 10).