في صباح حزين يوم الثلاثاء الماضي، رحلت عن دنيانا سيدة المسرح العربي الفنانة القديرة سميحة أيوب عن عمر ناهز 93 عاما، وبذلك فقد الفن المصري والعربي بغيابها صوتا كان شاهدا على تحولات مجتمع وروحا جعلت من الخشبة معبدا للفن العربي الأصيل، فسميحة أيوب لم تكن مجرد فنانة، بل أسطورة نسجت من الموهبة والإنضباط والوعي الاجتماعي، ما يجعلها حاضرة رغم الغياب. ولدت سميحة في حي شبرا بالقاهرة يوم 8 مارس عام 1932 وعرفت منطقتها بتنوعها الثقافي والطبقي وكانت البيئة الشعبية منبعا حقيقيا للصور الدرامية التي ألهمتها لاحقا.. إلتحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية في نهاية الأربعينيات وتخرجت عام 1953 تحت إشراف رائد المسرح المصري زكي طليمات الذي لم يتردد في دعمها وفتح الأبواب أمام موهبتها الفذة. «حضور مبكر وشغف لا ينطفئ» ظهرت لأول مرة على شاشة السينما وهي في الخامسة عشرة في فيلم «المتشردة»، ثم توالت أعمالها مثل «شاطئ الغرام»، «بين الأطلال» و»أرض النفاق».. غير أن شغفها الحقيقي ظل دوما منصبا على المسرح الذي وصفته ذات مرة بأنه «المكان الذي أتنفس فيه» لتصبح لاحقا أحد أهم أعمدته على مدى عقود فلن يأتي أحدا بمكانة القديرة سميحة أيوب. «المسرح بيتها وعالمها» 170 عملا مسرحيا متميزا من «سكة السلامة» إلى «الوزير العاشق» ومن «السبنسة» إلى «كوبري الناموس» كانت سميحة صوتا لا ينسى على خشبة المسرح، فلم تكن مجرد ممثلة تؤدي النص، بل كانت تتقمص الحالة الشعورية للمسرحية حتى تذوب فيها وتحمل معها الجمهور نحو عوالم أخرى حتى في أدوارها الصامتة كان لوجهها لغة لا تحتاج إلى كلمات. لقبت ب»سيدة المسرح العربي»، ليس فقط لحجم إنتاجها أو لعشقها للمسرح، بل لجودته وتأثيره، فكانت قادرة على تقديم النصوص المعاصرة والكلاسيكية بنفس العمق، فجمعت بين الروح المصرية والاتصال بجذور الأدب العالمي. «ريادة الإدارة المسرحية» لم يكن تألقها حبيس الأضواء ومنصبا علي مكانتها الفنية الفريدة فقط، بل أمتد خلف الكواليس حين أدارت فرقة «المسرح الحديث» عام 1972 ثم أدارت «المسرح القومي» في فترتين من 1975 إلى 1982 والفترة الثانية من 1984 إلى 1988، وكانت رؤيتها واضحة، فكانت تقول دوما: «المسرح يجب أن يربي الذوق العام ويصنع وعيا جديدا»، لذلك اختارت أعمالا جادة وفتحت المجال أمام أجيال جديدة من المخرجين والكتاب والممثلين، وخلال إدارتها قدمت عروضا متميزة لأجيال مختلفة من المبدعين ونجحت في إنتاج بعض العروض المشتركة مع فرنسا وإنجلترا، مثل مسرحية «فيدرا» لجان راسين، و»أنطونيو وكليوباترا» لشكسبير. «على الشاشات أيضا.. لها حضور لا يشيخ» رغم ولعها بالمسرح فإن سميحة أيوب لم تغب عن السينما أو التلفزيون، ومن أبرز أفلامها «فجر الإسلام» و»بين الأطلال» و»ليلة العيد»، لكن أحد أكثر أدوارها جماهيرية وأثرا لدى الجمهور المعاصر كان في فيلم «تيتة رهيبة» عام 2012 مع محمد هنيدي وباسم سمرة، حيث قدمت دور الجدة السلطوية بطريقة ساخرة وذكية جعلت الجميع يتعلق بالفيلم ويظل خالدا بسبب دورها المتميز والفريد، وتمتلك سميحة موهبة ربانية تستطيع أن تظهر قدرتها على الانتقال من التراجيديا إلى الكوميديا بخفة وإقتدار، فلم تكن تضحك فقط، بل كانت تقدم «كوميديا الموقف» العميق مما جعل أداءها يدرس في كيفية الحفاظ على الشخصية القوية حتى داخل إطار فكاهي وهي من أصعب أنواع التحول التي يمكن أن يقدمها الفنان، لتثبت سميحة إنها قادرة على التنوع والتلون الفني حتى في الكوميديا، وكان آخر ظهور سينمائي لها في فيلم «ليلة العيد» عام 2024. كما تركت بصمة واضحة في الدراما التلفزيونية، حيث شاركت في مسلسلات بارزة، مثل «الضوء الشارد» الذي كان ولازال محفور في ذاكرة الدراما العربية، «المصراوية»، «سعد اليتيم» و»مولد وصاحبه». «إرث من الجوائز والاحترام» حظيت سميحة بتكريمات عديدة من رؤساء وزعماء عرب وأجانب، حيث منحها الرئيس جمال عبد الناصر «وسام الجمهورية» عام 1966، وكرمها الرئيس محمد أنور السادات، كما حصلت على «وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى» من الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1983، و»وسام بدرجة فارس» من الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان بعد تقديمها مسرحية «فيدرا» على مسرح «أوبرا باريس». «أثرها في التعليم والثقافة» لم يكن إدراج سيرتها الذاتية ضمن مناهج التعليم الابتدائي المصري محض صدفة بل لأنه اعتراف بأن شخصيتها ونجاحها تمثل قدوة حقيقية للأطفال والشباب فسميحة لم تكن فقط ممثلة ناجحة بل امرأة قوية تحدت الأعراف وفرضت احترامها وسط بيئة لم تكن ترحب بسهولة بقيادة النساء. «حياة عاطفية.. وفاء للمسرح أولا» تزوجت سميحة 3 مرات من رجال أرتبطوا بالفن والثقافة، هم محسن سرحان، محمود مرسي، وسعد الدين وهبة، ومع ذلك كان المسرح هو الزوج الأطول عمرا في حياتها، فقد منحته كل وقتها ووجدانها ولم تنقطع عنه حتى في شيخوختها. «الرحيل.. لكن البقاء مضمون» حين قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي جبهتها قال لها: «أنتي من جيل حافظ على وجدان هذا الوطن»، وبالفعل هذا هو الوصف الأدق لها وبرحيلها ينطفئ مصباح من مصابيح الفن الأصيل، لكن نورها سيظل معلقا في ذاكرة كل من عرفها وسمع صوتها أو شاهد أداءها. رحلت سميحة أيوب لكن الفن الذي زرعته باق.. خالدة كالعظماء خالدة كأدوارها التي لا تموت. اقرأ أيضا: إطلاق اسم «سميحة» على مسابقة العروض المسرحية