في أعماق وادي الملوك بالبر الغربي لمدينة الأقصر، يرقد الملك الشاب المتوج بالغموض والجمال، "توت عنخ آمون"، الذي تحوّل رغم سنوات عمره القليلة إلى رمز خالد لحضارة أبهرت العالم. وبين أسرار المقبرة وكنوزها، يصحبنا الدكتور مصطفى وزيري، عالم المصريات، في رحلة عبر الزمان والمكان، ليفتح لنا نوافذ على عالم الفراعنة، ويكشف تفاصيل ملك شاب اختصر بجسده الصغير سيرة أمة عظيمة. ووُلد "توت عنخ آمون" في ظل الأسرة الثامنة عشرة، خلال فترة مضطربة سياسيًا ودينيًا شهدت ثورة دينية كبرى بقيادة "إخناتون"، الذي فرض عبادة الإله الواحد "آتون" بدلاً من تعددية الآلهة المصرية التقليدية. توت عنخ آمون.. عودة آمون وبداية الاستقرار في مصر القديمة في سن التاسعة فقط، اعتلى "توت" العرش، وحمل مع توليه عودة الأمل للمصريين. فقد غيّر اسمه من "توت عنخ آتون" إلى "توت عنخ آمون"، معلنًا انتهاء مرحلة "آتون" وبداية عهد المعبود "آمون" وسيادة "طيبة" كعاصمة دينية لمصر، وقام بإعادة فتح المعابد المغلقة وعلى رأسها معابد الكرنك. ورغم أن حكمه استمر لفترة قصيرة، إلا أن المصريين ارتبط اسم "توت عنخ آمون" في أذهانهم بعودة الاستقرار والطمأنينة بعد سنوات الانقسام والخلافات، تزوج من "عنخ إس إن آمون"، ولم يترك خلفه وريثًا، إذ توفي وهو في الثامنة عشرة من عمره، وما تزال أسباب وفاته حتى اليوم لغزًا يثير الجدل بين العلماء، ما بين احتمالية إصابته بالملاريا، أو تعرضه لإصابة، أو حتى مؤامرة غامضة. لكن ما فشل به الملك الشاب في حياته، فاز به في مماته. فقد أصبحت مقبرة "توت عنخ آمون"، التي اكتشفت عام 1922، نافذة ذهبية للعالم كله على عظمة الحضارة المصرية، المقبرة التي بالرغم من تواضع حجمها مقارنة بمقابر الملوك في الأسرة الثامنة عشرة، إلا أنها كانت تحمل في جدرانها وعلى أرضها كنوزًا لا تقدر بثمن: 5398 قطعة أثرية نادرة تمثل أعظم ما أنتجته اليد المصرية القديمة. اقرأ ايضاً : مصر القديمة.. أول من اعترف بحقوق العمال كنوز توت عنخ آمون.. حين منح الموت حياة للخلود في مقدمة هذه الكنوز، قناع توت عنخ آمون الذهبي الشهير، الذي يزن 11 كجم من الذهب الخالص ومرصع بأحجار كريمة من اللازورد والعقيق والفيروز والزجاج الملون. كما ضمت المقبرة ثلاثة توابيت متداخلة، كان التابوت الداخلي منها مصنوعًا بالكامل من الذهب، وعثر بها أيضًا على ست عجلات حربية مذهبة تمثل القوة العسكرية، بجانب أقواس وسهام وخناجر وأسرّة ملكية وكراسٍ ونحو 130 قطعة من القلائد والأساور والخواتم، أغلبها مطعم بالعاج والصدف ومرصع بالذهب. ومن المقرر أن تُعرض مجموعة الملك توت الكاملة بالمتحف المصري الكبير، في سابقة هي الأولى منذ اكتشاف المقبرة، لتجتمع كنوزه أخيرًا تحت سقف واحد أمام عيون العالم. واكتشاف مقبرة "توت عنخ آمون" لم يكن مجرد حدث أثري بل كان ثورة ثقافية وإنسانية غيرت مسار علم المصريات، وجذبت أنظار العالم إلى مصر القديمة، ورسخت من الهوية الثقافية المصرية بين الأمم، ورغم استمرار الجدل والبحث حول أسرار رحيله المبكر، إلا أن الثابت أن موت "توت عنخ آمون" منح الحياة لعصر مجيد سيظل مضيئًا في ذاكرة الإنسانية.