أصبحت موضوعات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة محور اهتمام متزايد لدى صناع الفن حول العالم، لا سيما في ظل التحولات السريعة التي تشهدها الحياة اليومية, ومع هذا الاهتمام، اتجهت العديد من الأعمال الفنية مؤخرا إلى تسليط الضوء على الجانب المظلم للتكنولوجيا، في محاولة لدق ناقوس الخطر بشأن ما قد يحدثه الإفراط في الاعتماد على الآلات من تآكل تدريجي للقيم والمشاعر الإنسانية. في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات التكنولوجية بوتيرة تفوق استيعاب البشر، يطل علينا مسلسل "Black Mirror"، لا كمجرد عمل درامي، بل كمرآة لحاضرنا المحتمل ومستقبلنا القريب, السلسلة التي بدأها تشارلي بروكر منذ عام 2011، لا تزال تحافظ على خصوصيتها في قدرتها على محاكاة كوابيس العصر الرقمي، حيث يتحول الإنسان من صانع للتكنولوجيا إلى عبد لها، دون أن يدرك. عاد "بلاك ميرور" بموسمه السابع عبر منصة "نتفليكس"، ليثير مجددا جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وليؤكد أن التكنولوجيا، رغم إبهارها، لا تزال سيفا ذا حدين. يضم هذا الموسم 6 حلقات تحمل سمة فريدة, باستحضار الماضي من خلال عدسة المستقبل, لكن المفارقة هنا أن الحنين لم يعد وسيلة للراحة، بل أصبح أداة في يد الذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل الواقع، وتزييف الذكريات، وتحويل الماضي إلى سلعة يمكن التلاعب بها, فكل حلقة تمثل كابوسا مستقبليا محتملا, المثير هذه المرة هو أن الموسم لم يكتف بالغوص في مستقبل تقني بحت، بل اتجه إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لإعادة إحياء الماضي، في مفارقة درامية مذهلة تجسد كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعيد تشكيل ذكرياتنا وحتى وعينا التاريخي. إحدى الحلقات - على سبيل المثال - تستلهم فكرة استرجاع ذكريات قديمة من خلال صورة فوتوغرافية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، بينما تتناول حلقة أخرى إعادة إنتاج فيلم كلاسيكي بالأبيض والأسود بصيغة جديدة ومحوسبة بالكامل، ما يطرح أسئلة مقلقة حول حدود الإبداع والهوية الفنية. الحلقة الأولى من هذا الموسم، "Common People"، هي دون شك إحدى أكثر الحلقات رعبا من حيث الواقع القائم خلف السرد, عبر قصة الزوجين "أماندا" و"مايك"، تسلط الحلقة الضوء على تلاقي التكنولوجيا مع الرأسمالية، وتحول العلاج الطبي من حق إنساني إلى خدمة باشتراك شهري، يتحكم في الجسد والوعي والكرامة. Rivermind""، الشركة التي تقدم العلاج، لا تنقذ أماندا بقدر ما تحولها إلى منتج, نرى جسدها وقد أصبح بثا إعلانيا متواصلا، ونومها ضروري للشحن، في تجسيد دقيق لفكرة "تسليع الإنسان". مايك، في سبيل الحفاظ على حياة زوجته، يجبر على بيع نفسه عبر منصة بث مباشر، ليؤدي أفعالا مهينة تدر عليه بعض المال, وهنا يكمن جوهر الرعب الحقيقي أن يدفع الإنسان لاختيارات قاسية بين الكرامة والبقاء، بين إنسانيته ومتطلبات سوق لا يعرف الرحمة. ما يقترحه "Black Mirror" في هذه الحلقة يتجاوز نقد التكنولوجيا بوصفها أداة متوحشة، ليقدم قراءة أعمق لآليات النظام الرأسمالي المعاصر الذي يستغل الضعف البشري بأناقة مغلفة بالتقنيات الحديثة. حين تقدم الشركات الاشتراكات العلاجية كما تقدم باقات الإنترنت، فإننا ندخل عالما يقاس فيه الوجود ببطاقة ائتمان، وتدار فيه المشاعر بمنطق السوق, الطبقات الاجتماعية الجديدة لا تقوم على التعليم أو المهنة، بل على مستوى الاشتراك من "Rivermind Basic" إلى "Rivermind Lux"، وكلما زاد السعر، زاد نصيبك من "الإنسانية". المسلسل أيضا يتناول في طياته قضية فقدان الذات. أماندا لم تعد قادرة على التمييز بين صوتها الحقيقي والإعلانات التي تتسلل إلى حديثها, هنا، يطرح سؤال مرعب, إذا كانت أفكارك وكلماتك ليست ملكك، فهل ما زلت موجودا فعلا؟, هل يظل الإنسان إنسانا إذا صار مجرد قناة ترويجية لمنتجات لا يعيها؟. نهاية الحلقة، بموت أماندا وانتحار مايك فى بث مباشر، تحمل وزنا رمزيا ثقيلا, إنها ليست مجرد "نظرة"، بل دعوة للتأمل الذاتي, هو لم يعد مجرد ضحية، بل تحذير حي للمشاهدين, أنتم التاليون في الصف، إذا لم تستيقظوا. تختار الحلقة أن لا تمنح بصيص أمل، لأن الواقع الذي تصوره ليس مستقبلا متخيلا بل امتدادا طبيعيا لما نعيشه اليوم، في عالم بات فيه الذكاء الاصطناعي أداة للسيطرة أكثر من كونه أداة للتحرر. رغم أن المسلسل لطالما كان سوداويا في طابعه، إلا أن هذا الموسم جاء أكثر عمقا وأقرب للواقع، ربما لأن التطورات التي يتناولها أصبحت اليوم ملموسة وليست مجرد خيال علمي, فالبشر لم يعودوا فقط ضحايا للتكنولوجيا، بل باتوا شركاء في تشكيل مصيرهم الرقمي، وأحيانا بانعدام وعي يثير القلق. الرسالة الجوهرية التي يحاول الموسم السابع إيصالها هي أننا، في سعينا لتسهيل الحياة وتوسيع مداركنا عبر الذكاء الاصطناعي، قد نكون بصدد تفكيك الروح البشرية نفسها، وتحويل الذكريات والمشاعر إلى بيانات قابلة للنسخ والمعالجة. اللافت في هذا الموسم هو توظيف النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي كأداة درامية، ليس لتجميل الذكريات، بل لتحذير المشاهد من إمكانية التلاعب بها. فالذكريات، كما يراها "بلاك ميرور"، لم تعد ملكا خاصا، بل قد تصبح قريبا ملفات رقمية خاضعة للفلترة والتحسين وربما التزوير. وهنا يكمن السؤال الأخطر, هل سيظل الماضي مرآة صادقة لواقعنا؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيفرض رواية جديدة للتاريخ؟. هذا الموسم لم يأت فقط لاستكمال سلسلة الرعب التكنولوجي التي اعتادها الجمهور، بل جاء ليضعنا أمام مرآة أكثر صدقا، وربما أكثر قسوة, مرآة تجبرنا على مواجهة أنفسنا، وسلوكياتنا، وطريقتنا في التعامل مع الأدوات التي صنعناها بأيدينا. هو موسم يذكرنا بأن التطور لا يكون بالضرورة مرادفا للتقدم، وأن الذكاء الاصطناعي، إذا ترك دون ضوابط أخلاقية وفكرية، قد يتحول لخطر يهدد البشرية. قد يبدو عنوان "Black Mirror" للوهلة الأولى إشارة إلى شاشات الأجهزة، لكنه في الحقيقة مرآة داكنة لما نحن عليه كبشر, لا يهاجم المسلسل التكنولوجيا بحد ذاتها، بل يكشف كيف تكشف التكنولوجيا أسوأ ما فينا, الطمع، الجشع، الهروب من الألم، وبيع القيم مقابل راحة زائفة. ويعزز هذه الفكرة من خلال تكرار نمط "التقنية كمنقذ يتحول إلى جلاد"، ويضعنا أمام صورة مستقبلية تتسلل إلينا ببطء، لكنها ليست بعيدة. "Black Mirror" هو أكثر من مسلسل، إنه اختبار للوعي, يحذرنا من أن لحظة اللاعودة ليست بعيدة إذا لم نعيد التفكير في علاقتنا مع التكنولوجيا، ومع بعضنا البعض, في زمن أصبحت فيه الشركات تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك، والمساحات الخاصة تذوب لصالح الخوارزميات. فهو يهمس في أذنك, لا تدع المرايا السوداء تسحقك قبل أن تدرك أنها تعكس نفسك. في نهاية المطاف، لا يمكن فصل "بلاك ميرور" عن اسمه, فكل حلقة فيه تشبه النظر في مرآة مكسورة، حيث كل شظية تعكس جزءا من الحقيقة، لكنها تشوهها في الوقت ذات, أو ربما تعرينا أمام أنفسنا. رغم أن التكنولوجيا تبدو في ظاهرها هي بطلة الحكايات، فإن الإنسان هو المركز الحقيقي لكل شيء. مخاوفه، أنانيته، تطلعاته، وهروبه المستمر من مواجهة ذاته، هي ما تشكل جوهر الصراع, فالسلسلة لا تستشرف المستقبل كما يظن البعض، بل تعيد رسم الحاضر، لكن بعد نزع الغلاف اللامع بعد تفكيك الصورة إلى شظايا، كل منها يحمل انعكاسا مرعبا لإنسانية تتآكل ببطء, وتقول: أنظروا جيدا.. هذا ما أصبحتم عليه. اقرأ أيضا: جائزة «هيباتيا الذهبية» لأفلام الذكاء الاصطناعي