الرأسمالية هنا لا تستسلم، وتريد أن تثبت قدرتها على تحويل أى شيء بما فى ذلك المشاعر الإنسانية النبيلة إلى مصدر للفلوس والبيزنس تتعرض إنسانية العالم كله لاختبار جديد هذه الأيام. ليس فقط فى الولاياتالمتحدة بعد إعادة انتخاب دونالد ترامب، بل فى كثير من مناطق العالم التى يحكمها من هم على شاكلة ترامب ممن لا يعترفون بأى شيء سوى بالرأسمالية فى أسوأ صورها. ومع كل تلك التحديات ولأنه فى النهاية لن يصح إلا الصحيح فسوف تنتصر الإنسانية يومًا ما قريبًا مهما بدا بعيدًا. من شواهد ذلك النصر تلك الحكاية التى يتندر بها الناس والإعلام فى الولاياتالمتحدة عن ذلك القاضى الأمريكى ذائع الصيت «فرانك كابريو» الذى تخطى الثمانين عامًا ومع ذلك لا يزال يعمل بكل همة ونشاط وحماس شاب تخرج لتوه من الجامعة. ليست هذه أسباب شهرة كابريو بالطبع فهذه سمات - حتى نكون منصفين - كثير من الأمريكيين، يساعد عليها أن القانون الأمريكى لا يحيل أحدًا إلى المعاش، لا فى القضاء ولا غيره ومن يريد الاستمرار فى العمل وقادر عليه فالباب مفتوح على مصراعيه، المهم هو الناتج عن ذلك العمل وهو ما يتم تقييم الناس على أساسه وليس العمر. هذه ليست قضيتنا الأساسية، بل قضيتنا فى ذلك القاضى الذى اكتسب شهرته من إنسانيته الشديدة فى التعامل مع المتهمين، خاصة أنه متخصص فى نظر قضايا مخالفات المرور وبعض القضايا الإدارية الصغيرة وليست الجرائم الكبرى. القاضى يعيش ويعمل فى إحدى مناطق ولاية رود آيلاند التى تقع شمال شرق الولاياتالمتحدة. أما سبب شهرته الكبيرة هو تعامله بروح القانون مع الحالات التى يرى أنها خالفت قوانين السرعة المرورية مضطرة لذلك وليس لصفة متأصلة فيها، مثل ذلك الرجل الذى يبلغ من العمر ستة وتسعين عامًا ورصده الرادار متجاوزًا للسرعة فى منطقة مدارس، وهذا فى عرف القانون الأمريكى مخالفة مزدوجة حيث لحياة الإنسان قيمة وللأطفال بصفة خاصة قيمة أكبر. عند مناقشة القاضى للرجل المذنب بكى مؤكدًا أنه كان مضطرًا للقيادة بسرعة لمحاولة إنقاذ ابنه صاحب الستين عامًا ويعانى من الشلل بعد أن دخل فى أزمة قلبية. فقال له القاضى: إن كنت أنت فى التسعين وقلقًا على ابنك الذى هو فى الستين من عمره لأنه مريض فأتمنى أن أكون مثلك مع أبنائي، ثم أضاف: لقد أسقطت عنك التهمة لأنك أب رحيم. القضية الأخرى التى تسببت فى الشهرة العارمة للقاضى الإنسان «فرانك كابريو» هو مناقشته لسيدة تراكمت عليها غرامات السير بسرعة لتصل إلى 4500 دولار. وعندما سألها القاضى عن سبب كل تلك المخالفات انهمرت دموعها وهى تحكى كيف أنها كانت تقود بسرعة كبيرة محاولة البحث عن قتلة ابنها الشاب، فأسقط عنها المخالفات كلها مؤكدًا أنه لا يتمنى لأحد أن يمر بمثل تلك التجربة الأليمة، بل وأردف قائلًا: لن أسامح نفسى لو مثلت قوة السلطة وأصدرت حكمًا على شخص مر بمثل ظروفك. الجميل فى الحكاية، تلك المناقشات الرائعة التى يجريها ذلك القاضى مع المتهمين وأهاليهم الذين يحضرون معهم فى قاعة المحكمة. حتى أنه فى بعض الأحيان يسأل الأطفال الذين بصحبة ذويهم عما إذا كان الآباء أو الأمهات مذنبين أم لا من وجهة نظرهم، والأجمل أنه فى كثير من تلك القضايا يحكم لما حكم به الأطفال والذى غالبًا ما يكون فى صالح آبائهم بالطبع بعد أن يجرى معهم كابريو حوارات فى غاية الإنسانية وخفة الظل، خاصة مع تلقائية الأطفال الشديدة والتى يجدها الرجل فرصة لتلقينهم دروسًا فى الشفقة على الكبار والإنسانية التى هى فوق العدل. أما الاختبار الحقيقى فهو أن هذا القاضى قد تلقى مؤخرًا عروضًا من شركات كثيرة لتصوير المحاكمات حصريًا ليتحول الموضوع إلى سبوبة. وبدأت هذه الشركات بالفعل فى تصوير المحاكمات وعرضها على السوشيال ميديا وهى تحقق نسب مشاهدة خيالية. الرأسمالية هنا لا تستسلم، وتريد أن تثبت قدرتها على تحويل أى شيء بما فى ذلك المشاعر الإنسانية النبيلة إلى مصدر للفلوس والبيزنس. وهو ما يثير حالة من الجدل لا تتوقف داخل المجتمع الأمريكى الذى يرفع الآن شعار «دعونا ننتظر ونشاهد للنهاية لنرى من سيفوز فى آخر السباق»، الإنسانية التى لا تزال تصارع من أجل البقاء أم الرأسمالية الطاغية التى تلتهم كل نبيل جميل. هل سيظل القاضى بعد تلك العروض السينمائية على نفس القدر من الإنسانية أم يرفع الراية البيضاء أمام تلك الرأسمالية ونراه فى قادم الأيام قد ترجَّلَ عن منصة القضاء وغيّر محل إقامته ليتجه صوب هوليوود عاصمة السينما، ليتحول من القاضى الإنسان المتواضع «فرانك كابريو» إلى النجم السينمائى، نجم الشباك «فرانك دى كابريو»!!.