يحتفل الأقباط كل عام بعيد أحد السعف، أو أحد الشعانين، وهو اليوم الأول من أسبوع الآلام الذى يسبق عيد القيامة، ويُعد من الأعياد ذات الطابع الروحى والاحتفالى معًا، حيث تتداخل فيه طقوس الكنيسة مع ممارسات المجتمع، وتتجلى فيه عناصر التقديس، والفرح الشعبي، والذاكرة الجماعية. تبدأ تسميته ب«أحد السعف» من القصة الواردة فى الأناجيل، حين دخل السيد المسيح مدينة أورشليم كملك منتصر، فاستقبله الشعب وهو يحمل سعف النخيل وأغصان الزيتون، رمزًا للسلام والنصر، وهتفوا قائلين: «أوصنا لابن داود، مبارك الآتى باسم الرب». ومنذ ذلك الحين، تحتفل الكنيسة بهذا الحدث كتذكار روحى مهم، حيث يُنظر إليه كمدخل لأسبوع الآلام، ويُستعاد فيه مشهد المسيرة المقدسة. تُزيّن الكنائس فى هذا اليوم بفروع النخيل والصلبان المصنوعة من السعف، وتُقام الصلوات والأناشيد الخاصة، التى تعبّر عن الفرح الروحى بمجيء السيد المسيح الملك المتواضع، والذى اختار أن يركب حمارًا لا حصانًا، فى موكب رمزى ملئ بالفرح. ويحمل «أحد السعف» بُعدًا شعبيًا واسعًا، يُعد من أبرز مظاهر الثقافة الشعبية القبطية فى مصر. فابتداءً من يوم السبت السابق، يبدأ الناس فى القرى والمدن بشراء السعف أو قطعه من قلب النخيل، خاصة الفروع البيضاء أو الصفراء، وتمتلئ الشوارع بباعة السعف ويتم شرائه وتبادله بين الجيران فى طقس احتفالى من الود والتواصل. وفى مساء السبت، تجتمع الأسرة حول السعف لصناعة أشكال فنية دقيقة: صلبان، قلوب، أساور، خواتم، تيجان، عُش نمل، حمار، جمل، وأحيانًا مجدولة القربانة. يشترك الجميع فى هذا العمل – رجالاً ونساءً وأطفالاً – فى مناخ احتفالى يمزج بين العادات والتقاليد. وفى صباح الأحد، يتوجه الناس إلى الكنائس، حاملين أشغالهم من السعف، أو فروع السعف كما هي، لتُرش بالماء المقدس أثناء الصلاة وتُعلّق فى البيوت طوال العام. ويتم استبداله فى العيد الجديد فى العام التالى ويُعتقد أن هذا السعف يحمل البركة ويحفظ البيت من الشرور، ويُعد شاهدًا دائمًا على ارتباط المقدس بالحياة اليومية. وقد سجّل المقريزى هذا الاحتفال فى كتاباته قائلاً: «أما فى أحد الشعانين، فالقبط يخرجون من الكنائس حاملين الشموع والمجامر والصلبان خلف كهنتهم، ويسير معهم المسلمون أيضًا، ويطوفون الشوارع وهم يرتلون، وكانوا يفعلون هذا أيضًا فى خميس العهد». ويعكس هذا المشهد حالة من التداخل الدينى والاجتماعي، حيث تشترك الجماعة المصرية، مسلمين ومسيحيين، فى ملامح الفرح الشعبي. وفى مدينة طما بمحافظة سوهاج، تتجسد رمزية الحدث بصورة ميدانية، إذ يستقبل الأهالى الأسقف فى صباح أحد السعف بفروع النخيل، ويُقدّم له حمار ليركبه، فى استعادة فطرية لموكب دخول المسيح أورشليم. وتتعالى الترانيم والزغاريد، ويُزف الأسقف فى موكب يضم الرجال والنساء والأطفال، يُعرف ب»الزفّة». وفى تصور الجماعة الشعبية، فإن «الزفّة» هى فعل رمزى جماعي، يُعبر عن الالتفاف حول شخصية مقدسة، يُحتفى بها وتُبارك، هكذا تتخذ الدراما الشعبية أشكالًا متنوعة، تستمد حيويتها من المخزون الثقافى والوجدانى للجماعة. ومن المدهش أن هذا الطقس الاحتفالى لا يقتصر على المسيحيين وحدهم، بل يشارك فيه بعض المسلمين، خصوصًا فى القرى، حيث يعرفون موعد العيد، ويقومون بقطع قلوب السعف وبيعها للمسيحيين، أو يهادونهم ويشاركونهم فرحة العيد بروح من الألفة والمودة، ما يعكس اندماج الطقوس فى نسيج المجتمع المصري. وعندما يحتفل الأقباط بعيد أحد السعف، فإنه لا يكتفى باستحضار ذكرى تاريخية، بل يستعيد الزمن المقدس فى أبهى صوره، حيث يتجاوز الزمن الدنيوى العادى ويدخل فى المجال الروحى للمقدس. فالاحتفال ليس مجرد إعادة تذكّر لحادثة تاريخية أو معجزة، بل هو إعادة تحيين لها، أى إعادتها إلى الحاضر وجعلها زمنًا معيشًا فى اللحظة الراهنة. وهنا تتجلى طبيعة الزمن المقدس كزمن دائرى قابل للانعكاس والتكرار، حيث يصبح الحاضر امتدادًا للزمن البدئي، الزمن الذى تشكّلت فيه المعجزة أو الحدث للمرة الأولى. وتقوم الجماعة الشعبية بإعادة تمثيل، «دراما أحد السعف» كنوع من المسرحية الشعبية الحية، التى تستند إلى رمزية دخول السيد المسيح، وتُعيد الجماعة الشعبية تجسيد هذا المشهد بطريقة تتوافق مع رؤيتها وفهمها للعالم. فالذين استقبلوه بالفرح هم من الطبقات الشعبية الذين حلموا بالخلاص، وظنوه ملكًا أرضيًا، أما الذين غضبوا فهم ممثلو السلطة الدينية والسياسية الذين رأوا فى هذا الدخول تهديدًا لمصالحهم. وتُجسد الزفة فى هذا اليوم شكلًا من أشكال التمثيل الرمزي، الذى يعكس القيم العليا للمجتمع. ولعل استخدام السعف نفسه، وهو مادة نباتية بسيطة مأخوذة من الطبيعة، يعكس فلسفة الجمال الشعبي، حيث تتحول المادة اليومية إلى رمز مقدس، ويُعاد تشكيلها بفن يدوى إلى أشكال تعبيرية لها دلالتها الروحية والجمالية. وهذا الجانب الفنى فى الاحتفال يبرز براعة الحرفية الشعبية، وقدرتها على تحويل الطقس إلى عمل فنى جماعي. وقد عُرف عن قدماء المصريين استخدامهم لسعف النخيل فى الاحتفالات والطقوس الجنائزية، وكانوا يصنعون منه الأكاليل ويقدمونه كقربان، كما استخدموه فى استقبال الملوك. واستمر هذا التقليد عبر العصور، ليتحول فى الثقافة المسيحية إلى جزء من طقس أحد السعف، ويظل قائمًا فى الوجدان الجمعى حتى اليوم. ومن اللافت أن المسلمين أنفسهم، حتى وقت قريب، كانوا يستقبلون الحجاج العائدين من الأراضى المقدسة بسعف النخيل، ما يدل على وحدة الرمز فى المخيلة الجمعية المصرية، وقدرة السعف على تمثيل الفرح الروحى والعبور من الأرضى إلى السماوي. ومن هذا المنظور، فإن أحد السعف ليس مناسبة دينية فقط، بل حالة شعورية واحتفالية عميقة، تُجسد الهوية والروح الجمعية، وتُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والزمن والمكان والرمز. إنه احتفال يتجاوز السرد التاريخى ليصل إلى نوع من «التجلى الجماعي» الذى يربط بين الماضى والحاضر، بين النص والحدث، بين الإيمان والممارسة اليومية. وهكذا، يتشكل أحد السعف كعيد دينى وشعبي، رمزى وجمالي، طقسى وإنساني، ويظل شاهدًا على قدرة الجماعة الشعبية فى إعادة إنتاج المعنى فى ضوء إيمانها، وخيالها، وتقاليدها.