فى عالم يموج بالصراعات الفكرية والتصادمات الثقافية، يبرز الحوار كجسر يمتد بين الضفتين، بين «الأنا» و«الآخر»، بين المختلفين فى العقيدة، المتنوعين فى الثقافة، المتباينين فى الرؤى. لكنه، رغم ضرورته، يظل معلقًا بين رغبة صادقة فى التفاهم وحواجز من الخوف وسوء الفهم المُتبادل.. هنا يأتى كتاب «حوار الأديان والثقافات» للدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف السابق، ليضيء درب الحوار ويضع بين أيدينا خارطة طريق لفهمٍ أعمق، وتواصلٍ أرقى، وتسامحٍ يليق بإنسانية الإنسان، وقد صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة «رؤية»، باللغتين العربية والفرنسية. هذا الكتاب ليس مجرد دراسة أكاديمية عن العلاقة بين الأديان، بل هو دعوة حقيقية لاستكشاف جوهر الحوار، ليس بصفته مجاملة عابرة أو محاولة للتوفيق القسرى بين المختلفين، بل باعتباره فنًّا إنسانيًّا وأداة ضرورية للتعايش، من خلال هذا العمل، يأخذنا المؤلف فى رحلة فكرية نتلمس فيها أسس الحوار، معوقاته، ودوره فى بناء مجتمعات أكثر انسجامًا وسلامًا. اقرأ أيضًا | «مكتبة مصر» في معرض فيصل للكتاب يبدأ الكتاب بسؤال جوهري.. ما الحوار؟ هل هو مجرد تبادل للكلمات، أم هو لقاء بين العقول والقلوب؟، يوضح المؤلف أن الحوار ليس سجالًا ينتهى بانتصار طرف على آخر، بل هو بحث عن المشترك الإنساني، مساحة يتقاطع فيها المختلفون دون أن يتنازلوا عن هوياتهم، إنه ليس تنازلًا، بل تفاعلٌ يُثري، وليس ذوبانًا، بل فهمٌ يعمّق الاحترام. ويستعرض المؤلف الرؤية الإسلامية للحوار، مستشهدًا بآياتٍ قرآنية وأحاديثٍ نبوية تؤكد على مبدأ التعايش والتسامح، ويعيد للقارئ اكتشاف روح الإسلام التى تدعو إلى الجدال بالتى هى أحسن، ونبذ التعصب والانغلاق، كما يتناول نماذج حية من التاريخ الإسلامي، حيث كان الحوار بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى أساسًا لعلاقات قائمة على العدل والاحترام. ويوضح الكاتب: أن الحوار لا يقف عند حدود العقائد، بل يتجاوزها إلى آفاق أوسع «الثقافة»، حيث يسلط الكاتب الضوء على إمكانية أن تكون الفنون، والأدب، والفكر، جسورًا للتفاهم بين الشعوب، فحين تعزف الموسيقى لحنًا مشتركًا، أو تروى الرواية قصة إنسانية تتجاوز الحدود، يصبح الحوار أكثر تأثيرًا وعمقًا.. الثقافة، كما يراها المؤلف، هى المفتاح الحقيقى لكسر الحواجز الذهنية التى تعيق التفاهم. وينتقل الكاتب إلى معوقات الحوار، ولماذا يبدو الحوار فى بعض الأحيان مستحيلًا؟، حيث يناقش المؤلف العقبات التى تعترض طريق الحوار، ومن بينها: التعصب الأعمى، حين يتحول الدين من مصدر إلهام روحى إلى أداة للرفض والإقصاء، بالإضافة إلى التوظيف السياسى للدين، حين تُستخدم العقيدة كوقود لإشعال الحروب بدلًا من أن تكون رسالة للسلام، والجهل بالآخر، حين نرى المختلفين عنا بعيونٍ مليئة بالأحكام المسبقة بدلًا من المعرفة الحقيقية. كما يتناول الكاتب دور المؤسسات الدينية والثقافية، وكيف يمكنها تجاوز هذه العوائق؟، وما الدور الذى يجب أن تلعبه تلك المؤسسات فى نشر ثقافة الحوار؟، يرى المؤلف أن الأمر لا يقتصر على النوايا الحسنة، بل يحتاج إلى جهود مؤسسية حقيقية، ومناهج تعليمية تزرع فى الأجيال القادمة قيم التعايش، وخطاب دينى متزن لا يكتفى بالمواعظ، بل يقدم حلولًا عملية لبناء جسور الثقة بين المختلفين. ويقدم الكاتب والعالم الجليل د. محمد مختار جمعة، من خلال هذا الكتاب عدة أفكار جوهرية، نوجزها فى عدة نقاط، أولها: أن الحوار ليس ترفًا، بل ضرورة فى عالم تتزايد فيه النزاعات، إذ لا يمكن تحقيق سلام حقيقى دون تفاهم مُتبادل، وثانيها: أن الإسلام، كغيره من الأديان، يدعو إلى الحوار، لا للصراع، وأن جوهر الدين يقوم على التعارف لا التناحر، وثالثها: أن الثقافة أداة قوية للحوار، وأن الانفتاح على الإنتاج الفكرى والفنى للشعوب المختلفة يعزز التفاهم العميق، ورابعها: أن المشاكل التى تواجه الحوار ليست دينية بقدر ما هى سياسية واجتماعية، وأن سوء الفهم والتوظيف الخاطئ للدين من قبل بعض الأطراف هو ما يخلق التوترات، وخامس الأفكار الجوهرية للكتاب: أن الحوار يحتاج إلى مؤسساتٍ قوية تدعمه، سواء على مستوى التعليم، أو الإعلام، أو الخطاب الديني. فى النهاية، يتركنا كتاب «حوار الأديان والثقافات» أمام سؤال مفتوح، هل نحن مستعدون للحوار؟، هل نملك الشجاعة لننظر إلى المختلفين عنا بعين الباحث عن الفهم، لا بعين القاضى الذى يصدر الأحكام؟، الكتاب لا يزعم امتلاك إجاباتٍ نهائية، لكنه يفتح بابًا للتأمل، ويدعو القارئ إلى إعادة النظر فى رؤيته للآخر، إنه أشبه برسالة تطلب منا جميعًا أن نكون أكثر وعيًا بقوة الكلمة، بأن نستخدم الحوار لا كسلاح للانتصار، بل كوسيلة لاكتشاف إنسانيتنا المشتركة.. فى عالم يعج بالصخب، يقدّم لنا هذا الكتاب صوت العقل، ويدعونا إلى الإنصات إليه، لعلنا نجد، وسط ضجيج الاختلافات، رؤى متناغمة تُعزف باسم الإنسانية.