كثيرا ما كنت أتساءل بداخلى عندما كنت أسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم ردا على صحابى سأله عن أحق الناس بحسن صحابته، ليرد بقوله: أمك، ويستزيده السائل ثانية فيرد : ثم أمك، ويسأله ثالثة ليرد صلى الله عليه وسلم: ثم أمك، ولا يتوقف الصحابى الجليل عن السؤال حتى يجيبه النبى الأكرم في الرابعة: ثم أبوك. كنت أتساءل ولماذا ثلاث مرات للأم وواحدة للأب؟، بالطبع كنت أضع أمام عينى ما تقاسيه الأم حملا فتكوينا فرضاعة فتربية وعناية وسهرا ونَصَبا ومعاناة كبيرة حتى يبلغ الوليد أشده ويقف على رجليه ويستطيع تلبية مطالب نفسه، فضلا عن أن يخدم نفسه. وبعدها قد ينسى أو لايشعر بكل ذلك فيكون عاقا أو جاحدا. كنت أقول فى نفسى ذلك المبرر للتفضيل لكنني كنت أقف عاجزا عن سر التفضيل ثلاثة أمثال الأب ولماذا لم يكن مثلين أو أربعة أمثال مثلا؟ كان عقلى يحدثنى أنه لابد أن هناك حكمة وراء هذه الأمثال الثلاثة،حتى كنت ذات مرة أقرأ سورة «المؤمنون» وفيها تلك الآيات التى تلخص قصة خلق الإنسان وتكوينه حتى نزوله إلى الدنيا بشرا سويا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} . أقرأ الآيات الكريمة لأجد نفسى أولا أمام إعجاز علمى بشر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم يكن العلم قد أدرك ماهية الخلق ولا مراحل التكوين لقصة اسمها الإنسان، فقد بدأ الله خلقه من طين وسوى من هذا الطين أباً لجميع الجنس البشري الذي ينتقل من مجرد نطفة يقذفها الوالد في قرار مكين محفوظة من كل مؤثر خارجي وهو رحم الأم، ثم تتحول النطفة في الرحم إلى عدة تحولات ذكرها القرآن قديماً دون أي أجهزة اكتشاف ورآها الإنسان حديثاً بعدما تطور العلم البشري؛ ليسبق القرآن علوم الإنسان وليثبت أنه من لدن خالق حكيم خبير . تتحول النطفة إلى أطوار جنينية هي: العلقة ثم المضغة ثم تكون العظام ثم كساء اللحم للعظام ثم استواء الإنسان واكتمال خلقه ليخرج للحياة ويختبره الله فيها. فإذا رجعنا لبعض التفسيرات للآيات مثلا قال السعدي في تفسيره: ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته، من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه، فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلام، وأنه {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} أي: قد سلت، وأخذت من جميع الأرض، ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض، منهم الطيب والخبيث، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك. {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} أي: جنس الآدميين {نُطْفَةً} تخرج من بين الصلب والترائب، فتستقر {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو الرحم، محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} التي قد استقرت قبل {عَلَقَةً} أي: دما أحمر، بعد مضي أربعين يوما من النطفة، {فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ} بعد أربعين يوما {مُضْغَةً} أي: قطعة لحم صغيرة، بقدر ما يمضغ من صغرها. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} اللينة {عِظَامًا} صلبة، قد تخللت اللحم، بحسب حاجة البدن إليها، {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي: جعلنا اللحم، كسوة للعظام، كما جعلنا العظام، عمادا للحم، وذلك في الأربعين الثالثة، {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح، فانتقل من كونه جمادا، إلى أن صار حيوانا، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي: تعالى وتعاظم وكثر خيره {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } {الذي أحسن كل شيء خلقه}. وينتهى تفسير الآيات الكريمة مشفوعا بما فسره العلم منذ عقود قليلة لعمر كل مرحلة من مراحل تكوين الجنين، ويبقى التفسير لنصيب كل من الأم والأب فى هذا الأمر؛ فالنطفة فى القرار المكين هى البذرة يلقيها الرجل من حيواناته المنوية ليخترق أقواها جدار الرحم ويلقح بويضة المرأة فتصير عَلَقة،وهذا كل دور الرجل فى خروج ابنه أو ابنته إلى الحياة يفعله مستمتعا بامرأته، لتتحول الدفة كليا نحو الأم بعدما تصير النطفة علقة لتتحول إلى مضغة ثم تصير المضغة عظاما ليكسوها الخالق لحما يكتمل به تصوير الجنين الوليد فيصبح خلقا آخر. خلاصة ما اهتدى إليه عقلى أن الإنسان حتى يصير علقة يكون للأب دور يؤديه باستمتاع وانتظار بشوق لذريته ويتوقف عندها دوره المادى الجسدى، أما الأم فلها ثلاثة أدوار تنال من لحمها ودمها وعظامها ولبنها، فضلا عن معاناتها، وبعدها قد يتشارك الطرفان المعاناة ولكن بنسبة غالبة للأم وأخرى ضئيلة للأب، بل يتملص بعض الآباء ويقلقهم بكاء الصغير أو شكواه ليلا، بل تصل الأنانية ببعض ثالث بالضجر من هذا الضيف الذى يشاركه الزوجة فيمنع عنه أحيانا أو يهدد حقه الشرعى واستمتاعه بزوجته التى تطغى عليها غريزة الأمومة فلا تلتفت إلى متعتها التى تجدها فى الألم والمعاناة مع وليدها أكثر مما تنشدها مع زوجها. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل وصايته لصالح الأم ثلاثة أضعاف ما وصى به للأب،وهى قسمة عدل لمن ينشد العدل.