نجلس أحيانًا مع أنفسنا في لحظات صمتٍ عابرة، نتأمل شريط حياتنا ونتساءل: كيف مرت الأيام بهذه السرعة؟ كيف تغيرت ملامحنا ونظرتنا للحياة دون أن نشعر؟ لم تعد الأشياء التي أحببناها في الماضي تعني لنا الكثير، ولم نعد نهتم بما نرتدي أو إلى أين نذهب. صار الأهم أن نشعر بالراحة ولو قليلًا وسط صخب الحياة. إنها تلك اللحظات التي كسرتنا فصمدنا، والأوجاع التي خبأناها خلف ابتساماتٍ صامتة، كلها صنعت منا نسخًا أكثر وعيًا ونضجًا. نحن لا نكبر بالعمر ؛ فالعمر مجرد أرقام تُحصى على ورق التقويم. ما يكبر فينا حقًا هو ما نخسره من دواخلنا، وما نتعلمه من تجاربنا. لكن، هل أصبح النضج عبئًا يُثقل قلوبنا؟ أم أنه مصباحٌ ينير لنا الطريق؟ الحقيقة أن النضج ليس عدوًا للسعادة كما يتصور البعض، بل هو وعيٌ يمنحنا القدرة على تمييز ما يستحق اهتمامنا وما يجدر بنا تجاوزه. ربما لم نعد ننبهر بالأشياء البسيطة كما كنا في طفولتنا، لكننا أصبحنا نبحث عن المعنى الحقيقي خلف كل شيء. باتت سعادتنا في لحظاتٍ صافية مع من نحب، وفي طمأنينة قلوبنا بعد صراعاتٍ طويلة. ومن المفارقات العجيبة أن خسائرنا لم تسرق منا الفرح، بل علمتنا أن نقتنصه من تفاصيل الحياة الصغيرة. أصبحنا ندرك أن قهوة صباحية في شرفة هادئة، أو ضحكة صادقة مع صديقٍ قديم، تساوي أضعاف ما كنا نلاحقه من مظاهر براقة. ولعل أجمل ما يمنحه لنا العمر هو حكمة الاختيار، فنحن الآن نختار بعناية من يدخل دوائر حياتنا، ونفتح أبواب قلوبنا لمن يستحق. لم نعد نخشى الوحدة، بل أصبحنا نرى فيها فرصةً للسلام الداخلي. لقد تعلمنا أن الركض وراء إرضاء الآخرين يُنهك أرواحنا، وأن أجمل انتصارٍ هو أن نكون صادقين مع ذواتنا. لكن، وسط هذا النضج، علينا ألا نسمح للزمن أن يسلبنا دهشتنا الأولى. فلنحتفظ بجزءٍ من طفولتنا في أعماقنا، ذلك الجزء الذي ينبض بالحياة ويُدهشه جمال زهرةٍ متفتحة أو طيران فراشةٍ ملونة. فما الحياة إلا مزيجٌ متوازن بين نضجٍ يُرشدنا وطفولةٍ تُنعش أرواحنا. وفي النهاية، ربما تكون الأيام قد علمتنا الكثير، وربما فقدنا بعض الأحلام على طول الطريق، لكننا اكتسبنا شيئًا أثمن: فهمنا أن العمر ليس أرقامًا تزداد، بل حكاياتٌ تُكتب، وكل حكايةٍ منها تُضيف سطرًا جديدًا في كتاب حياتنا.