مما يثير الارتباك عند التعامل مع ساحة ثقافية ما.. الخلط الواقع بين الثقافة كمفهوم وممارسة وبينها كأحد الأنشطة السلعية.. جانبان لا مجال للفصل بينهما، والسؤال فقط يتوقف على الوعى بحدود الارتباط بينهما، والعمل على إقامة تفاهمات تعزز من قيمتهما معًا بدلًا من تبادل الاتهامات بين الطرفين: الخفة والتفاهة فى مقابل الابتعاد عن الواقع والتفكير بمثالية. السلعة والقيمة. وهى تفرقة لا تزيد عن كونها شعارًا! فى الأزمنة التى يدرك فيها كل طرف من طرفى العلاقة دوره ولا يسعى للتغول على دور الآخر (على الأقل ظاهريًا) نرى تفاعلًا حقيقيًا بين الثقافة والجمهور، فى الثقافة المصرية فإن الفترة من الأربعينيات إلى نهاية الستينيات تصلح نموذجًا يمكن الاسترشاد به، حيث كان هناك فاعل منتج للثقافة وفاعل آخر يتولى تقديم المنتج إلى الجمهور. التفاعل بينهما كان قائمًا بالأساس على الترويج للمنتج الفكرى والثقافى، ولأن لا عصر يخلو من سباقات الأولوية، بما تعنيه أحيانًا من تهميش محتمل لأفكار منافسة، فإن قوة المنتج من الاتجاهات المتنوعة حوّل الصراع إلى عملية حيوية تصب فى صالح الجمهور. وفى ضوء هذا التصور يمكن تخيل حجم تأثير دور الوسطاء ما بين المثقف وجمهوره، ما بين المبدع وقرائه، هذا المساعد الثقافى، كما فى تسميات أخرى، يأخذ أشكالًا تتنوع مع قوة الثقافة وانفتاحها ورواجها. تولى هذا الدور قبلًا وبكفاءة الإعلام التقليدى قبل أن يفقد جزءًا كبيرًا من تأثيره لصالح الإعلام البديل، ومنه «جروبات القراءة»؛ الفكرة التى حققت نجاحات سريعة بإعادة إقامة الصلة بين القارئ والثقافة، وذلك فى أعقاب فترة من الجمود نتجت من عدم قدرة الوسائط الكلاسيكية على التطور. يتفق المتخصصون على أن «جروبات القراءة» ساهمت فى توسيع قاعدة القراء، التعريف بمنتجى الثقافة بصورة أكثر جاذبية، إلقاء مزيد من الضوء على الأعمال، التشجيع على القراءة النقدية. لكن ولأن لا شىء يستمر مثاليًا، أو لأن المنطق يرى بأنه لا يمكن استمرار أى فعل عام بلا إطار تنظيمى ضابط مهما علا نبل الفكرة، فقد تحولت ال«جروبات» من قيمة إيجابية إلى سلبية، فمع غياب الإطار التنظيمى انفتح المجال تلقائيًا لمتكسبين باحثين عن ربح سريع، وازدادت المسألة سوءًا مع ضعف مرحلى تمر به الثقافة كفكرة بدا أنها غير قادرة على مواكبة عهد من التحولات على الأصعدة كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. المساعد الثقافى الجديد الذى نُظر إليه فى بداية عمله على أنه أداة فاعلة فى إعادة التوازن لساحة ثقافية ضعيفة وخاملة سرعان ما انقلب دوره عبئًا إضافيًا على مشاكل ثقافية متراكمة مطلوب وضع حلول لها، لم تعد «جروبات القراءة» أداة ترويج ثقافية عامة بل وسيلة متحيزة لكتَّاب معدودين بنظرة قاصرة للغاية إلى الثقافة ومكوناتها وقراءة سطحية للأعمال وأشكال ترويج لا تراعى الفارق بين محتوى ثقافى وآخر استعراضي! تحت أى مسمى يمكننا تصنيف «جروبات القراءة»؟ من حيث المبدأ يمكن اعتبارها أحد الأعمال الثقافية المساعدة القائمة على ترويج المنتج الأساسي، لكن السؤال تحديدًا أهو عمل خدمى يقوم به أصحابه بهدف دعم الثقافة انطلاقًا من الإيمان بأهميتها وقيمتها للمجتمع وأفراده، أم أنه عمل تجارى يخلط بين الأفكار والمال؟ السبب وراء السؤال أنه بعد ما يقرب من خمس سنوات على بداية عمل هذه ال«جروبات» وانتشارها بشكل واسع أصبح لدى المتابعين والمهتمين مجموعة من الملحوظات يتسع النقاش حولها مع الوقت، وعلى رأس هذه الملاحظات التحيز لأسماء بعينها، والإصرار على فرض وترسيخ نوع واحد من الكتابة وعدم التعمق فى النقاشات حول الكتابة والفن والتوقف عند كونهما تعبيرًا مباشرًا، وفى بعض الأحيان، سطحيًا، عن الحياة الواقعية. من المفهوم أن أى عمل جماهيرى لا بد سيتجنب القضايا المتخصصة، والكتابات الأكاديمية، والأعمال المعقدة، لكن مع هذا فإن ادعاء فعل ثقافى لا يقارب الأسئلة الحقيقية للثقافة على أى مستوى منها كافٍ لنفى الفعل من أساسه ومحو صفة ال«ثقافة» عنه، وتحويله إلى عمل دعائى فارغ من المحتوى لا يناسب الثقافة ولا منتجيها، وهذا بالطبع إن كان لدى منتج الثقافة الجدية الكافية والشجاعة اللازمة للتوقف وطرح السؤال عن جدوى هذا العمل ومردوده على الثقافة من دون الخوف من احتمالية خسارة القراء الذين تحصّل عليهم عبر شبكات ال«جروبات». ثمة وعد بالجماهيرية تقدمه «جروبات القراءة» للكتاب، وهنا نحن إزاء فعل مختلف تمامًا عن الوعد بانتشار العمل وطرحه على شريحة أوسع، رغبة لابد أنها تجول فى ذهن أى كاتب، مناقشة أفكاره على نطاق جماهيري، أن تنال شخصيات رواياته وقصصه النجومية، رؤية العمل ضمن إطار الحقل الثقافى الصادر فيه بعقد المقارنات وتتبع التطوير الذى قدمه على مستوى الأدوات الفنية واللغة وغير ذلك من ممارسات لا يمكن تصور أن عمل ثقافى مساعد يخلو منها. مثل أى نشاط آخر قائم على ممارسة مهنية احترافية لن يستقيم أى فعل ثقافى إلا إذا توافرت فيه القدرة النقدية، وهو ما يبدو غائبًا بصورة ملفتة فى «جروبات القراءة» والقراءة النقدية هنا تختلف بشكل مطلق عن الانطباعات العفوية التى تبدأ غالبًا بجملة واحدة «شعرت أن الكاتب يريد أن يقول..»، وليست هذه مطالبة بأن يتحول القراء إلى نقاد بل أن يساعدهم الوسيط أو المساعد على تكوين ذائقة نقدية تمكنهم من تطوير قدراتهم على التعبير عما قرأوه، لفت الانتباه إلى طرق القراءة النقدية ولو فى أبسط أشكالها، القراءة بالعقل لا بالمشاعر وحدها، التدرب على أن كثيرًا مما نقرأ لن يكون بالضرورة معبرًا عنا ولا موافقًا لأهوائنا لكن رغم ذلك علينا معرفته. مما يجدر التوقف عنه فى عمل «جروبات القراءة» الأهمية الكبرى التى منحتها للقارئ، للحق فهذا واحدًا من فلسفات التكنولوجيا المعاصرة وليس حكرًا على هذا المساعد الثقافى وحده، نحن هنا إزاء علاقة مختلة الميزان تميل فيها الكفة لصالح القارئ، هو الأساس فى العملية بأكملها وغيابه أو انتقاله إلى «جروب» آخر يعنى المكسب والخسارة لأحدهما، لهذا تشيع ألعاب جذبه: منح الجوائز لأفضل قارئ، لأفضل مراجعة، توزيع الكتب كهدايا، وخلاف ذلك من برنامج مكافآت ونقاط يشبه ما تقدمه شركات الطيران لعملائها الدائمين حيث تقاس المسافات بالأميال وليس بما رآه المسافر! سيبدو أغرب إنجازات «جروبات القراءة» تحطيمها لصورة الكاتب الكلاسيكية وتحويله إلى منتج يتم ترويجه إلى جانب عمله، الكاتب هنا عليه البقاء فى تواصل شبه دائم مع القراء وتلبية متطلباتهم الناتجة عن عمله الذى يتم الترويج له، الإجابة عن الأسئلة، الشرح والتوضيح، وربما فى مرات الانطلاق برفقتهم فى رحلات لها طابع ثقافى، ولا يمكن تسمية هذا إلا بأنه تضحية بالعزلة الأسطورية المصممة لمنح الكاتب مسافة وبعدًا ينأى بهما فيمكنه الكتابة بلا تحيزات وإملاءات مسبقة.