كان رحيلًا استثنائيًا، هادئًا مثل صاحبه، مشحونًا بمحبة الملايين، وذكريات محفورة فى وجدان أجيال عاصرته وأخرى أعادت اكتشافه بعد عقدين من انطلاقته الفنية المدهشة. أبناء جيلى يسألون: مَن منا لم يحب محمد رحيم؟ ملحن الألفية وشريك ذكرياتنا الحلوة، وأغانينا التى أحببنا معها، وعشنا على نغماتها قصصنا وحكاوينا. المشهد الأول منذ شهر تقريبًا وقف الفنان عمرو دياب على خشبة المسرح يتذكر مع جمهوره أغنية غناها منذ 26 عامًا، قال للجمهور: فاكرين الأغنية دى؟! أنا لقيتها طلعت «تريند» فافتكرتها وقلت أغنيهالكم.. وبالفعل غنى «وغلاوتك» وعادت لتكون فقرة ثابتة فى كل حفلاته الأخيرة. عاد بنا عمرو دياب لزمننا الجميل، وأعاد معنا اسم محمد رحيم الذى لم يغب أو يبتعد أبدا عن النجومية والأضواء كما روج البعض، عندما أعاد عمرو دياب غناء «وغلاوتك» عدت بذاكرتى إلى شتاء عام 1998، محمد رحيم الطالب فى السنة التمهيدية بكلية التربية الموسيقية يلتقى بالفنان الكبير حميد الشاعرى فى ندوة بالكلية، يكسر رحيم حواجز الخجل والخوف ويتجه لحميد ليخبره بأنه ملحن شاب ولديه أغنيات يتمنى أن يسمعها منه، لم يتردد حميد الشاعرى صانع النجوم فى منح الفرصة لرحيم وتحديدا فى نفس اليوم مساء. اقرأ أيضًا | صُناع «برغم القانون» فى ضيافة «أخبار اليوم» فى تمام الثانية عشرة بعد منتصف الليل كان رحيم ومعه الشاعر الشاب زميله بالكلية محمد رفاعى يقفان أمام ستوديو «إم ساوند» بمصر الجديدة، دخل رحيم ليلتقى بحميد، عزف بعض الأغنيات على الجيتار وأعجب بها الشاعرى جدا، وتحديدا أغنية «وغلاوتك»، بعد دقائق طلب حميد من رحيم وزميله أن ينتظرا فهناك نجم مهم قادم الآن، مَن هو؟ إنه «الهضبة»عمرو دياب الذى يسجل فى هذا الاستوديو أغنيات ألبومه الجديد، وكأن أبواب الفرصة قد فُتحت على مصراعيها فى هذه اللحظة للشاب الذى لم يكمل عامه الثامن عشر، الحلم الذى جاء به من محافظة كفر الشيخ حيث ولد ربما يتحقق الآن. دخل عمرو دياب وعرّفه الشاعرى على الحضور، وسمع الاغنية وأعجب بها جدا، وفى نفس اللحظة قال: الأغنية دى بتاعتى أنا هاخدها خلاص.. ومع قليل من كلمات التشجيع من دياب والشاعرى كان رحيم يقطع خطواته الأولى نحو الشهرة، ويكتب شهادة اعتماده كأول ملحنى جيله ظهورا على الساحة. المشهد الثانى فى عام 2001 وقف عمرو دياب على خشبة مسرح جائزة الموسيقى العالمية فى موناكو ليتسلم ثانى جائزة له عن أغنية «حبيبى ولا على باله»، قبلها بعام تقريبا كان عمرو دياب ومعه الموزع الموسيقى طارق مدكور يبحثان عن تقديم شكل موسيقى جديد يمزج بين الأغنية الشرقية البحتة وموسيقى التكنو، فى محاكاة لتجربة منسق الأغانى اللبنانى سعيد مراد الذى مزج بين أغنية «ألف ليلة وليلة» لكوكب الشرق وبين ايقاعات التكنو فأصبحت تلك القطعة الموسيقية الجديدة المخلقة إلكترونيا موضة تجوب العالم، فطن عمرو دياب أن هناك التجربة فى حاجة للحن شرقى من جملة لحنية واحدة أصيلة يمكن صناعة مزيج شرقى وتكنو منها، بالصدفة عثر هو وطارق مدكور على شريط صغير احضره الملحن خالد عز، كان الشريط يحتوى على مجموعة من ألحانه وهو وزملاء له فى كلية التربية الموسيقية، التقط عمرو دياب جملة لحنية فى الفاصل الموسيقى لأحد الأغانى وقال له هذه الجملة هى التى سنبنى بها لحن الأغنية التى ننوى صناعتها، وكانت المفاجأة أن هذا اللحن لمحمد رحيم، وبالفعل كتب محمد رفاعى كلمات الأغنية وانطلقت «ولا على باله» لتحطم أرقام مبيعات الكاسيت فى الوطن العربى والشرق الأوسط، ويضىء اسم محمد رحيم كأصغر ملحن مصرى ينال جائزة الموسيقى العالمية. قبل هذه اللحظة بعام تقريبا كان محمد رحيم قد حفر اسمه على أغلفة ألبومات أشهر المطربين، قدم تجربة جريئة جدا مع هشام عباس فى ألبوم «حبيبى ده» ليقدم له 3 أغنيات من بينها أغنية «يامن هواه» التى تجمع بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية فى سلاسة لحنية تضم خمس جمل لحنية متنوعة المقامات بين الحجاز والراست والصبا فى أغنية واحدة! كان حميد الشاعرى هو الأب الروحى لمحمد رحيم، ووجد فى الملحن الشاب «النغمة» المفقودة لتجديد شباب عشرات النجوم الذين جاءوا من مختلف أنحاء الوطن العربى ليتعاونوا معه، كان فى مقدمتهم النجمة «نوال الزغبى» التى يمكن أن نقسم مشوارها الفنى لمرحلتين هما ما قبل أغنية «الليالى» وما بعدها، لقد صنع محمد رحيم وحميد الشاعرى شكلا غنائيا جديدا لنوال فى هذه الأغنية التى أدخلتها عالم موسيقى «الفلامنكو» واللاتين بوب بعد سنوات من النجاحات الكلاسيكية الشرقية. لقد ولد محمد رحيم كبيرا، قلت له هذه العبارة عندما التقينا أول مرة عام 2001 بعد نجاح أغنية «ولا على باله»، فقد ساهم وهو فى بداية طريقه فى اكتشاف أصوات هامة على الساحة الموسيقية، هل تعلم أن أول أغنية صدرت لتامر حسنى كانت من ألحان محمد رحيم؟! نعم هى أغنية «شكلى هحبك» التى صدرت فى ألبوم فرى ميكس 2000، وكذلك قدم هيثم شاكر فى ألبوم «ميوزيك ناو» بأغنية «أحلف بالله» فى نفس العام قدم عشرات الألحان لمصطفى قمر وفارس وهشام نور وباسكال مشعلانى وتعاون مع النجمة الراحلة رجاء بالمليح فى أغنيتين رائعتين إحداهما هى «يا عالم بالغيب» التى تعد من جواهرها الخفية. المشهد الثالث لم يكن هذان المشهدان فقط هما العلامتان المضيئتان فى مسيرة ملحن شاب لم يتجاوز عمره وقتها 21 عاما فقط، بل هناك عشرات المشاهد التى عايشتها فى سنوات رحيم الأولى لتكشف عن وجه موسيقار شاب عبقرى شبهه البعض بامتداد جديد لبليغ حمدى، لم تكن هذه مقولتى بل مقولة الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودى. يحكى الأبنودى فى لقاء سابق جمعه هو ومنير ورحيم مع الإعلامية شافكى المنيرى أن ألحان محمد رحيم استفزته واعادته لكتابة الشعر العامى مجددا، لقد فكر رحيم بعبقرية مدهشة فى إعادة تلحين التراث بمقطع من السيرة الهلالية وتم بناء قصيدة جديدة من وحيها وبقلم الأبنودى، لم يجرؤ ملحن شاب من قبله على هذه الخطوة التى تحتاج ثقافة موسيقية غزيرة جدا فى وقت كانت أرتام الموسيقى الاسبانية تسود خلاله الأغنية المصرية وتحتلها بينما هو يعود إلى بستان التراث ويلتقط منه زهرة نادرة ويقدمها للجمهور. حكى لى محمد رحيم فى لقاء سابق أن علاقته بالتراث تمثل تحديا له كمبدع، كان لديه رؤية أن التراث يضم عشرات الأعمال الناجحة على مستوى اللغة والكتابة ولكنها فى حاجة إلى إعادة صياغة موسيقية تواكب العصر ولكنها تحمل روح الأصالة أيضا فتجد أنه استلهم من الفولكلور الريفى وكذلك الصعيدى والسواحلى الكثير من الأفكار الشعرية خاصة أنه كان مشاركا فى كتابة العديد من أغانيه التى صاغها مع والدته الشاعرة الراحلة اكرام العاصى. المشهد الرابع يقولون إن محمد رحيم مات مقهورا وهى مقولة روجها البعض بطلانا وكأن رحيم توقف عن التلحين ونسيه الزمن، لقد ظلت ابداعات رحيم مثل النهر المتدفق لا تتوقف على مدار 26 عاما، صاغ فيها نجاحات ممتدة مع نجوم الوطن العربى، لحن لاليسا فى بداياتها «أجمل احساس» وكتب شهادة نجاحها مثل أغنية «جربت فى مرة» بتيتر مسلسل «مع سبق الإصرار» وظل بصمة فى كل أعمالها حتى الآن واخرها أغنية «خوليو وفيروز» . قدم لشيرين عبد الوهاب العديد من الأغانى الناجحة مثل «صبرى قليل» التى عادت لتتصدر التريند مجددا، ولا ننسى أبدا تيتر مسلسل «حكاية حياة» وأغنيته الشهيرة «مشاعر» .. تنقل بين الرومانسى والشعبى والايقاع الراقص، فلحن لحكيم وبهاء سلطان وغيرهما، قدم أفكارا موسيقية مختلفة مع تامر حسنى وهشام عباس وغيّر من شكل سرعات الإيقاعات الموسيقية، ساهم فى تشكيل مشروع روبى الغنائى فى بدايته وصنع معها أشهر أغنياتها، ساهم فى تقديم كارول سماحة وميريام فارس للجمهور المصرى، وحظى بعشرات التكريمات فى مصر والوطن العربى. محمد رحيم سيظل نغمة الاحساس التى ستعيش ألحانها عشرات السنوات، ستبقى ذكرى لموسيقار مصرى كبير لن ينساه تاريخ الأغنية العربية الحديثة.