فلا تدرك أهى فطرة هناك أم روح سرت فيهم وفى أرضهم من جوار الحبيب وتمدد جسده الطاهر بين ظهرانيهم. منتصف ليل الخميس يعلن أننا - مربوطين بأحزمة الأمان فى طائرة ليست مصرية - نشق الفضاء صوب مدينة جدة لتأدية مناسك العمرة. السفر ليلًا مزيج من متعة متابعة الأرض تتلألأ أضواؤها تعلن عن تواصل الحياة ليلًا ونهارًا، وبعض من الخوف كلما ارتقت الطائرة إلى أعلى مبتعدة شيئًا فشيئًا وتاركةً معالم أضواء الأرض بمدنها وأحيائها المضيئة تتلخص فى مشهد جمرات متقدة مستعرة فى قمة توهجها تومض بلا دخان. المضيفتان تتوسطان الطائرة بعد استقرارها فى الفضاء تدفعان عربة عبارة عن منضدة صغيرة بين المقاعد لتوزيع علب من الطعام الخفيف، وقد كانت الشركة موفقة غاية التوفيق فى اختيار مسمى «تصبيرة» للوجبة شديدة التواضع ومعها «زجيجة» تصغير زجاجة ماء طبيعية لا تتعدى طول أصبع اليد، محتواها من الماء لا يتعدى جرعة واحدة لا تبل ريق عطشان، ناهيك عن أن تروى ظمأ راكب حتى لو كان طفلًا! قلت فى داخلى: ما هذا البخل، أفى طريقنا لأكرم الأكرمين يحملنا أبخل البخلاء؟!. وما لبثت الصورة أن اتضحت وطاقم الطائرة يعلن عن وجود كافيتيريا للمأكولات والمشروبات على متن الطائرة لمن يريد، وبالطبع لا تسل عن سعر كوب شاى أو فنجان قهوة أو حتى زجاجة ماء تحصل عليها من بوفيه الفضاء!. الارتفاع الشاهق يشعر الناظر من نافذة «الطائرة الأتوبيس» بضآلة عالم الأرض ومعه يتجسد الشعور بشدة ضآلة الطائرة بمن فيها وأنها كمثل ورقة تتقاذفها نسمات هواء تلين حينًا فى سهول الفضاء فترفق بها، وتعصف حينًا فى مطباته فتثير رعب من فيها. ويعلن طاقم الطائرة عن حلول ميقات الإحرام وقد كنا ارتدينا بالفعل ملابسه قبيل ركوب الطائرة من القاهرة العامرة. الجمعة: لو صبر الحاج استقبلتنا تباشير صباح الجمعة فى جدة بعد ثلاث عشرة ساعة من وداع المنزل بالقاهرة وصولًا لباب فندق الإقامة. وبعد قسط من الراحة لم يتعد ساعاتٍ ثلاثًا ولقيمات مما تيسر كانت العمرة بالطواف والسعى، وتساؤل يتكرر كلما ذهبنا إلى المسعى وسعينا: كيف كانت أمنا المصرية «هاجر» قادرة على هذا السعى جيئة وذهابًا فى هذا القفر الموحش وقتها والعزلة بلا أناس ولا عمران ولا طريق ممهدة ولا بعض من ظل، كيف فعلتها وكيف نصاب بالإرهاق والإعياء ونحن بين عشرات الآلاف ونسعى فوق أرض ممهدة ببلاط مريح للقدم وتحت تكييف جبار وسط إضاءة مبهرة؟ ويبقى هذا النسك حتى قيام الساعة دليلًا على الإرادة واليقين وصدق الإيمان بأن الله لا يضيّع عبدًا صادقًا له ولو كان وحيدًا فى متاهة. وبعد الفراغ من العمرة كان وقت التحلل من الإحرام، وفى مواجهة الفندق كان صالون حلاقة للرجال وجهتى للتحلل من الإحرام وتركت نفسى للشاب الثلاثينى الذى لم أستغرب ملامحه، لا عن سابق معرفة إنما عن حنين ملامح وأواصر قربى فى الوطن. نعم هو مصرى إذن يحمل مقصه، لم يخطئ حدسى من ابتسامة تكسو وجهه وبشر يغطى ملامحه وحلاوة روح تضفر كلماته وأنا أوصيه بحلاقة تناسب سنى وعمرتى، فإذا به يعاجلنى بلكنة دقهلاوية لا تخطئها الأذن: حبيبى يا حاج، لو صبر الحاج على الحلاق..! أنت دقهلاوى بقى يا أسطى.. من شاوة يا حاج.. غريب أمر هذه الملامح وتقاسيمها وما يخرج من أفواه أصحابها مهما تباينت جغرافيتهم، فلابد لك أن تميزهم بين شتى الجنسيات فى تجمع كل العرب من شتى البلاد العربية. الشاب خالد الدقهلاوى هو ذاته النسخة الأولى التى من صورها المتطابقة أحمد ابن التل الكبير وبلال ابن مدينة نصر وعلى ابن شربين ومصطفى ابن عين شمس ومحمود ابن قنا والأسمر المجهول الذى لم أعرف اسمه وهو يتوقف فى شوط من السعى ليشرب ماء زمزم ويسقى كل ساعٍ من المعتمرين، لا يتبرم ولا يتأفف بل يبقى مكانه لمساعدة من ينشد جرعات من الماء الذى روى عطش السيدة هاجر بعدما تفجر من تحت قدميها مكافأة من الله لصبرها وإيمانها. السبت: قشعريرة! ساعتان وربع قطعناها للوصول بقطار الحرمين السريع من مكة إلى المدينةالمنورة، وليس من الممكن أو السهل أن توصف مشاعر الذاهب إلى هناك وهو يخطو خطواته الأولى إلى داخل الحرم، ناهيك عمن تسعده ظروفه بدخول الروضة الشريفة. كل ما أتذكره من مشاعر مادية وأنا أقطع الخطوة الأولى بمرافقة زوجتى ومرافقنا ابن العم محمود قاطن المدينة جزاه الله خيرًا كل ما أتذكره قشعريرة سرت فى جسدى وكأن ما تبقى من شعر رأسى وكل جسدى قد استقام على أخمص قدمى، أو لعله استقام على وسادة هوائية فوق الأرض لا أراها ولا ألمسها.. حتى كانت لحظات الروضة الشريفة كفقاعة حريرية حملت كل جسدى طائرًا فى سماء المشهد العظيم أتلمس مشاهده صلى الله عليه وسلم فى هذه المدينة الرائعة ذات المشاعر المختلفة تمام الاختلاف عن أى بقعة أخرى، مشاعر تلمحها على وجوه الناس هناك فى الحرم النبوى وفى أرجاء المدينة فلا تدرك أهى فطرة هناك أم روح سرت فيهم وفى أرضهم من جوار الحبيب وتمدد جسده الطاهر بين ظهرانيهم؟. الثلاثاء: رحلة العودة! كانت رحلة العودة على شركة طيران خاصة أخرى لكنها هذه المرة مصرية، أصدقكم القول إنه قد ساورنى شعور مزيج بين قليل من الخوف من إمكانيات الطائرة وكثير من الراحة لأنها تتبع إدارة بشرية مصرية. وفجأة بعد ما يقارب عشر دقائق من الحركة على أرض المطار استعدادًا لأخذ الإذن بالانطلاق فى الفضاء توقفت الطائرة، ورغم القلق الذى ساد الجميع إلا أن ركابها من معتمرين وغير معتمرين كانوا جميعًا مصريين. كل هذا الجمع الذى يقارب الثلاثمائة راكب شمروا عن ساعد مصريتهم وخرجوا بأنفسهم من شعور القلق واستخدموا سلاحهم المصرى الخالص مؤكد المفعول؛ سلاح النكتة التلقائية.. كل ذلك والشقيق السعودى يستشعر الذهول من هؤلاء القوم وما فعلوه بدقائق الانتظار التى تحولت تمامًا من القلق إلى ضحكات متبادلة قلبت التكشيرة إلى ابتسامات اتسعت وصارت قهقهات وأزيز الطائرة يعلو ثانية وهى تنطلق فوق أرض المدرج ثم تعلو فى السماء، وكأن قائد الطائرة كان يراقب ما يجرى بين ركابه فراح يعلن عن قدراته ومهاراته وهو ينهب المسافات ويرتفع فى السماء بقوة ليعوض دقائق الوقوف بالمدرج وتنفرج الأسارير بعد فك أحزمة الأمان ومرور المضيفتين غير العربيتين بين الركاب بالعربة الصغيرة والوجبات الصغيرة أيضًا لكن بتنوع فى التفاصيل وبزجاجات مياه تبعتها عروض أخرى لمن يحتاج ماءً أكثر! سبحان الله فكما يقولون «الناس على دين ملوكهم» فقد بدت المضيفتان الأوربيتان وكأنهما اكتسبتا من قائدهما المصرى روحه وابتسامته ومن زميلهما المضيف المصرى بساطته اللذيذة وتعاونه وهو معهما يحملون بعض أغراض المسافرين ليضعوها فوق مقاعدهم. هؤلاء المصريون قمحيو البشرة ضاحكو الملامح مطلقو النكتة فى وقت الأزمات هم ملح الأرض هنا وهناك، يسعون إلى هناك حجاجًا أو معتمرين أو سائحين أو عاملين فينشرون حيثما حطّوا روحًا متفردة يأخذ منها الغير ولا يأخذون من الغير إلا جزاء ما عملته أيديهم، محتفظين هنا وهناك بصميم تكوينهم جيناتهم وبصمتهم الوراثية الفريدة.