حبس العالم أنفاسه طوال أكثر من ثلاثة أسابيع منذ وجهت إيران ضربة صاروخية لاسرائيل فى الأول من أكتوبر الجارى والتى قالت إنها رد على اغتيال زعيم حركة حماس الأسبق إسماعيل هنية خلال زيارة كان يقوم بها لطهران، وكذلك اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله. وبعد وعيد من إسرائيل استمر منذ ذلك الحين بأن ضربتها ستكون «مفاجئة ومؤلمة»، جاءت عملية متواضعة ومحدودة للغاية لا تقارن بالوعيد الاسرائيلى الذى طالما ردده مسئولو تل أبيب طوال ما يزيد على ثلاثة أسابيع.. ولم تكن الضربة التى شنتها إسرائيل فجر السبت الماضى على مواقع إيرانية مفاجئة، كما لم تكن مؤلمة على الإطلاق. لقد علمت إيران مسبقا بالهجوم وتم إخطارها بشكل غير مباشر من قبل إسرائيل بتوقيت الضربات. وقالت إيران إن إسرائيل «هاجمت أجزاء من المراكز العسكرية» فى محافظاتطهران وخوزستان وإيلام، مما تسبب فى «أضرار محدودة» فى بعض المناطق. وفى أعقاب الضرب، شددت إسرائيل على أن عمليتها انتهت ولن تقوم بعمل آخر ضد إيران، مادامت إيران لم ترد، لتستمر دوامة العنف. ◄ سلوك محسوب السلوك الإسرائيلى يمكن تفسيره من أكثر من جهة.. أولا، يمكن تفسيره بأن إيران قد نجحت بالفعل فى بناء قوة الردع الخاصة بها.. وقبل أسبوع، استعرضنا على صفحات المجلة فى تقرير بعنوان «مواجهة روسياوأمريكا تنتقل للشرق الأوسط بسرعة فرط صوتية»، كيف أن روسيا تجد فى دعم حليفتها إيران فرصة لها على مساومة الغرب سياسيا فى مواجهتهما فى منطقة شرق أوروبا المشتعلة منذ ما يقرب من الثلاث سنوات. وبناء عليه، فإن دخول روسيا المعادلة عبر دعم عسكرى لإيران قد غيّر المعادلة تماما أمام اسرائيل - من حيث حساباتها تجاه قوة إيران - وأمام أمريكا، من حيث حساباتها فى مسألة التورط فى حرب عسكرية قد تطول. وتحققت لإيران عبر هذه الجولة من المواجهة قوة ردع حقيقية صاغت وأملت حدود الضربة الإسرائيلية.. فإسرائيل لا تريد مزيدا من الخسائر على أراضيها لاسيما مع جولة عنيدة من القتال مع حزب الله الذى لا يتردد فى استهداف عمق اسرائيل. كما توجد احتمالات بأن تل أبيب قد خضعت أخيرا للضغوط الأمريكية التى أجبرتها على ضربة محدودة، لا تشعل حربا موسعة فى المنطقة، لاسيما قبل الانتخابات الأمريكية. ولا يخفى على أحد أن إسرائيل كانت طوال الفترة التى فصلت بين الهجوم الإيرانى والرد الاسرائيلى تتفاوض مع واشنطن بخصوص نطاق التحرك العسكرى ضد إيران ونوع الأهداف التى ستصيبها (ما بين مواقع عسكرية أو نفطية أو نووية) وكذلك المدى التى ستتدخل فيه أمريكا للدفاع عن إسرائيل. ووسط وعيد إيرانى بالتصعيد، استبعدت أمريكا الأهداف النووية الإيرانية من القائمة.. ولمخاوف ضخمة تتعلق بالتضخم وأسعار النفط، استبعدت أمريكا مرة أخرى الأهداف النفطية، ليتبقى فقط على القائمة الأهداف العسكرية، وهو ما استهدفتها بالفعل إسرائيل. وبعد الهجوم الإسرائيلي على إيران يوم السبت، سارع المسؤولون الأمريكيون إلى تحذير البلدين من استمرار دائرة العنف. وقال مسئول كبير فى الإدارة الأمريكية بعد الهجمات إن الضربات الجوية «يجب أن تكون نهاية هذا التبادل المباشر لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران». كما صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومى شون سافيت بأن البيت الأبيض يحث «إيران على وقف هجماتها على إسرائيل حتى تنتهى هذه الدورة من القتال دون مزيد من التصعيد». ◄ اقرأ أيضًا | نتنياهو إلى حكومته: إلى أين سنذهب من المسيرات؟ ◄ مطالب الحليف لكن إسرائيل لم تستجب دائمًا لمطالب حليفتها الأمريكية. فطوال الحرب، تحدت إسرائيل دعوات الولاياتالمتحدة لضبط النفس - فى عملية رفح فى جنوبغزة، ومؤخرًا فى الحرب البرية فى جنوبلبنان. وبلغت الخلافات بين الحكومتين ذروتها فى رسالة بتاريخ 13 أكتوبر من الولاياتالمتحدة إلى إسرائيل، تطالب فيها الدولة اليهودية بالتحرك لتحسين الوضع الإنسانى فى غزة خلال الثلاثين يوما المقبلة أو المخاطرة بانتهاك القوانين الأميركية التي تحكم المساعدات العسكرية الأجنبية، مما يشير إلى أن المساعدات العسكرية الأمريكية قد تكون فى خطر. والسلوك العدائى بالفعل غير مستبعد من البيت الأبيض تجاه إسرائيل من الناحية السياسية بعد انتخابات الخامس من نوفمبر.. فإذا فازت هاريس، فلن تتردد فى إظهار لهجة من الحسم تجاه إسرائيل متحررة من قيود الانتخابات والتصويت التى عانت منها من قبل. أما إذا خسرت الإدارة الديمقراطية السلطة، فلن تتردد فى عقاب إسرائيل من الناحية السياسية وإلحاق الأذى بها قدر المتاح حتى يتم تسليم السلطة فى الأسبوع الثالث من يناير القادم. ومن ثم، فإن التشدد السياسى الأمريكى مع نتنياهو قادم لامحالة. ◄ التداعيات الإقليمية ومع ذلك، يقول الخبراء إنه بينما تواصل إسرائيل حروبها فى غزةولبنان، فإن أى توقف في القتال المباشر بين إيران وإسرائيل من المرجح أن يكون قصير الأجل. وطالما استمرت هذه الحروب الإقليمية، فإن المسار العام للصراع الإسرائيلى الإيرانى سوف يتصاعد ومن المرجح أن تكون الجولة التالية أكثر شراسة. ومع تجنب إسرائيل مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية أو قطاع الطاقة، فإنها تكشف عن نواياها للفترة القريبة القادمة. كما أن الخطاب الخافت لإيران حتى الآن يشير لأنها من غير المرجح أن ترد بالمثل.. فمما لاشك فيه أن طهران لا تملك المصلحة فى الانخراط فى حرب إقليمية أوسع نطاقاً. وفى أول ظهور له بعد الأحداث، ألقى المرشد الأعلى الإيرانى آية الله على خامنئى تصريحات صيغت بعناية بشأن الهجوم الإسرائيلى على بلاده. وقال خامنئى: «لا ينبغى المبالغة فى الأعمال الشريرة التي ارتكبها النظام الإسرائيلي قبل ليلتين أو التقليل من شأنها. ولابد من كسر الحسابات الخاطئة للنظام الإسرائيلى. ومن الضرورى أن نجعلهم يدركون قوة وإرادة ومبادرة الأمة الإيرانية وشبابها». وتشير تعليقاته إلى أن إيران تدرس بعناية ردها على الهجوم. وقد صرح الجيش الإيرانى بالفعل بأن وقف إطلاق النار فى قطاع غزة أو لبنان يتفوق على أى هجوم انتقامى على إسرائيل، رغم أن المسئولين الإيرانيين قالوا أيضاً إنهم يحتفظون بحق الرد. أضاف خامنئي، أن «الأمر متروك للسلطات لتحديد كيفية نقل قوة وإرادة الشعب الإيرانى إلى النظام الإسرائيلى واتخاذ الإجراءات التى تخدم مصالح هذه الأمة والبلد». ورغم الرغبة الواضحة للجانبين، إسرائيل وإيران فى عدم التصعيد وانفلات الأمور على الأقل فى المدى القريب. لكن هذا لا يستبعد المزيد من الأعمال العدائية بين الجانبين، وحذر بعض الخبراء من أن هجوم يوم السبت قد يكون مقدمة لمزيد من الهجمات من قبل إسرائيل حتى لو اختارت إيران عدم الرد. «فحقيقة أن إسرائيل هاجمت عددًا من أنظمة الدفاع الجوى فى هذه المناسبة تشير إلى أنهم ربما يحاولون تمهيد الطريق لهجوم لاحق»، كما قال عزرائيل بيرمانت، الباحث البارز فى معهد العلاقات الدولية فى براغ والذى يركز على الشرق الأوسط. وأضاف: «من وجهة نظر إسرائيل، حققت هذه الضربة - فى الوقت الحالى - أهدافها. لن يمنع هذا إسرائيل من تنفيذ المزيد من الهجمات، لكننى أعتقد أن إدارة بايدن ستفعل كل ما فى وسعها لمنع المزيد من الضربات الإسرائيلية». ورجح بيرمانت أن يكون للانتخابات الرئاسية الأمريكية فى 5 نوفمبر تداعيات كبيرة على عملية صنع القرار فى إسرائيل أيضًا - سواء فى قرارها بالضربة هذا الأسبوع أو إمكانية شن هجوم مستقبلى على إيران فى المدى البعيد. بالنسبة لإسرائيل، سيعتمد الكثير على من سيفوز بين الرئيس السابق دونالد ترامب ونائبة الرئيس كامالا هاريس. قال بيرمانت: «حلم نتنياهو هو أن يصبح دونالد ترامب رئيسًا». «لا شك أن حكومة نتنياهو تفضل أن يكون ترامب رئيسًا، وستشعر بمزيد من الثقة فى قدرة إسرائيل على تنفيذ هجوم أكثر طموحًا مع وجود ترامب فى البيت الأبيض». أما إذا فازت هاريس فستكون على استعداد للذهاب إلى أبعد مما يجب على إدارة بايدن محاولة الحد من تصرفات إسرائيل فى إيرانوغزةولبنان. فقد أكدت هاريس مرارًا وتكرارًا على حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وأعلنت عن دعم واشنطن «الثابت» للبلاد، لكنها كانت أيضًا أكثر انتقادًا لأفعال إسرائيل فى بعض الأحيان، على الأقل بلاغيًا، من بايدن. وكانت معارضتها لإيران أقل غموضًا، حيث سمت الدولة عندما سُئلت عن «أعظم عدو» للولايات المتحدة فى مقابلة مع 60 دقيقة هذا الشهر. ◄ الحسابات الإيرانية وفي حين توجد الكرة فعليا فى الملعب الإيرانى، فإن محللين حاولوا استشراف السلوك الإيرانى فى الفترة القادمة. ويعتقد محللون أنه إذا ردت إيران على إسرائيل، فإنها تخاطر بمزيد من التصعيد فى وقت يعانى فيه اقتصادها وجيشها من الضعف. وإذا لم تفعل، فإنها تخاطر بالظهور بمظهر الضعيف فى نظر نفس الحلفاء، وكذلك فى نظر الأصوات الأكثر عدوانية وقوة فى الداخل. وإيران بالفعل فى خضم حرب إقليمية. فمنذ 7 أكتوبر 2023، تحركت إسرائيل بسرعة لإلحاق الضرر بجماعة حماس فى غزة ضمن عدوان ارهابى طال أكثر من مليونى فلسطينى، كما تحدكت ضد وكلاء إيران، بما فى ذلك حزب الله والحوثيون وحلفاؤها فى سوريا والعراق. ووفقا لتحليل نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، تمثل هذه الجماعات «الدفاع الأمامى» لإيران ضد إسرائيل، قلب الردع الوطني. وإضافة إلى خطابها الخافت بشأن ضربات اسرائيل السبت الماضى، تواجه إيران مشاكل اقتصادية هائلة، مما يجعلها حذرة من حرب طويلة ومكلفة مع إسرائيل. لقد عانت إيران من عقوبات شديدة من جانب الولاياتالمتحدة وأوروبا بسبب برنامجها النووى، مما أجبرها على الاقتراب أكثر فأكثر من روسيا والصين. كما أن النظام الإيرانى يتعامل أيضاً مع معارضة داخلية خطيرة بسبب ارتفاع الأسعار وحكمه القاسى، والتى تلعب دوراً فى أى حسابات للانتقام. فالنظام ملتزم بتدمير إسرائيل، ولكن أيضاً بالحفاظ على سلطته فى بلد متطور حيث أصبح غير محبوب بشكل متزايد. وهذا أحد الأسباب التى يعتقد المحللون أنها دفعت المرشد الأعلى آية الله على خامنئى إلى السماح بانتخاب رئيس أكثر اعتدالاً، مسعود بزشكيان، بعد وفاة إبراهيم رئيسى المتشدد فى حادث تحطم مروحية. وعلى خلفية الاضطرابات الداخلية، دفع بزشكيان إلى محادثات جديدة بشأن البرنامج النووى الإيرانى فى مقابل رفع العقوبات الاقتصادية، وهى الخطوة التى من المرجح أن تتم فقط بإذن من المرشد الأعلى. ◄ المعضلة! إن البرنامج النووى يشكل معضلة فى حد ذاته. فالضرر الذى لحق بالحلفاء على مدى العام الماضى، فضلاً عن ضعفه التقنى والعسكرى الواضح مقارنة بإسرائيل، من شأنه أن يفرض المزيد من الضغوط على إيران لدفعها إلى المضى قدماً فى برنامجها النووى والسعى إلى امتلاك القنبلة. ومما يزيد الأمور تعقيدا أن معركة هادئة نشأت حول خلافة آية الله خامنئى، الذى يبلغ من العمر 85 عاما. ومع رحيل رئيسى، هناك قلق داخلى بشأن احتمال أن يخلفه نجل آية الله خامنئى الثانى، مجتبى، 55 عاما. وسوف يكون للحرس الثورى الإسلامى القوى رأى مهم ويعتبر أكثر استعدادا لمواجهة إسرائيل. وقد تختار إيران فى النهاية الاستجابة للنصيحة الأمريكية والبريطانية لإنهاء هذه الجولة من الانتقام مع تسارع المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار فى غزةولبنان. وإجمالا، يبدو أن إسرائيل وإيران حريصتان على استعادة ما يسمى بتأثير الردع الذى تعتقدان أنه يأتى مع الضربات الانتقامية. وكما يرون، فإن هذا يعزز من قدرة كل منهما على ترهيب الآخر ويسمح لهما بالحد من قوة كل منهما.