من ارتفاع عدة آلاف من الأقدام فى جوف السماء،كانت التفاتتى إلى الأرض تحتنا بعدما ارتفعت بنا الطائرة عائدين من رحلة الحج بالأراضى المقدسة. النظر إلى الأرض ليلا من عمق السماء قد يشوبه بعض الخوف والرهبة كلما ازداد الارتفاع وكانت هناك بقاع من الضوء تبدو فوق الأرض تمثل كل منها مدينة أو حيا من الأحياء بأضوائها،الرهبة تتعدد كلما انشق ظلام هذا الارتفاع الشاهق عن بقعة مضيئة يذهب الخيال بالراكب مقارنا بين ماهى فيه وما هم فيه ومن يحمله فى الهواء ويضمن استواء الطائرة بين طبقات الغلاف الجوى، ومن يتكفل بعيش وسعادة أهل تلك البقعة المضيئة الساهرة أسفله تتنوع فيها كل أشكال الحياة، وبين بقاع أخرى تستقبل ضوء النهار أو فى عز النهار، وسبحان من يدبر كل هذا. كانت تلك هى المرة الأولى التى أركب فيها الطائرة ليلا ،ومع مغادرتنا مطار المدينةالمنورة لازمنا الشوق والحنين قبل الرحيل عن موطن سيد العالمين صلى الله عليه وسلم،وارتفعت بنا الطائرة التاسعة مساء لتقطع بنا الفضاء فوق أرض المملكة العربية السعودية الشاسعة،وعلى مسافات غير قريبة تتناثر بقاع الضوء تمثل تجمعات لمدن أو أحياء، لكنها كانت بقاعا محدودة المساحة لايكاد الناظر إليها يراها لبعض دقيقة أو أقل حتى تنطوى ويعود الظلام ثانية،تجسيدا لمدى العمران فى صحراء المملكة المترامية الأطراف ومحدوديته فى مساحة تتعدى ضعف مساحة مصر. حتى عبرنا البحر الأحمر وأصبحنا فى جنوب مصر اتجاها إلى القاهرة العامرة، وتغيرت صورة البقاع المضيئة المتباعدة لأجد كتلا متواصلة متقاربة من الأضواء تغطى بقاعا ممتدة من الأرض، فاطمأن البال واستراحت النفس وأدركت أنها مصر الساهرة بحبها للحياة ،العامرة بأهلها وقود الحياة، الزاخرة بنبض الحياة ووهجها. ومهما تبدلت الأحوال وعبست هنا أو ابتسمت هناك يبقى تاريخ مصر متوهجا كما هى سلسلة أضوائها الممتدة التى تابعتها عبر نافذة الطائرة حتى استقرت بنا فوق أرض مطار القاهرة الدولى لتشيع فى النفس راحة وفى القلب سعادة بالعودة ولقاء الأهل والأحباب.يبقى تاريخ مصر متوهجا فمصدر ثرائها الأول ليس من ثروات قد تنفد بعد حين،إنما هى ثروة لا تنضب ولا تفنى قيمتها ؛ هو إنسانها الذى تنطلق قدراته حيثما حطت رحاله وترك وحاله،وطبيعة حباها الله بها ولايدرك قيمتها إلا البعيد عنها.وتبقى مصر دائما «منورة بأهلها».
