عندما أتجول فى شوارع وحارات وأزقة «القاهرة التاريخية» تتعلق عينى بالفن الراقى والجمال والإبداع الذى أقف أمامه مذهولا.. وعندما تأتى لى فرصة لحضور ندوة أو احتفال بأحد البيوت الأثرية أجلس صامتاً أمام إبداع الفنان الرائع الذى أهملناه لسنوات طويلة.. لقد شاهدت وشاهد غيرى كيف يتعامل «الغرب» مع كنوزه وآثاره ورأيت فى «سويسرا» سجناً تحول مع الأيام إلى فندق وتمت المحافظة على تاريخه وشكله القديم حتى أن الشبابيك أبقوها كما هى مغطاة بقطع من صفيح صفائح السمن كما كانت قديماً. «القاهرة التاريخية» التى أقامها المعمارى المصرى منذ ما يزيد عن ألف عام تحتاج منا كل يوم إلى أن نضع عليها رتوشاً ليبقى بهاؤها وجمالها.. فبفعل التعديات والعشوائيات تحول الجمال إلى قبح والنظام إلى فوضى.. وفى الماضى ولد مشروع بث فى نفوسنا الأمل بعودة الجمال إلى مبانيها إلا أنه لم يكتمل لعدم توافر الإرادة وضعف التمويل.. ومؤخراً تبنت الحكومة مشروعات لإحياء تراثنا النادر وترميم ما يحتاج لاستعادة جمال «عاصمة المعز» فقد عرفنا منذ بداية القرن العشرين «المولات» عندما بنى المعمارى النمساوى «أوسكار هورويتز» المبنى الشهير «تيرنج» بميدان العتبة والذى يتميز بكرة أرضية ضخمة فوقه يحملها 4 ملائكة.. فقد جاء إلى القاهرة وأقام «تحفته» التى لا يوجد مثلها سوى ثلاث فى العالم.. وكان المول ملكا لثرى يهودى أراد أن يحاكى متاجر «سيزار ريتز» فى أوروبا واختار العتبة «الخضراء» لأنها تربط بين القاهرتين «القديمة» والجديدة» وبالمكان «حى الموسكى» المليء بالشوارع والحوارى بعطوره الشرقية وفى الغرب حديقة «الأزبكية» والمبانى الأوروبية الفخمة التى أنشأها الخديو إسماعيل. ثم جعل «عمارة تيرنج» من أكبر «متاجر البيع» بالقاهرة بتخصيص كل دور من الطوابق الأربعة للأزياء أو العطور أو الأقمشة أو المنسوجات أو الأدوات المنزلية من فرنسا وانجلترا وألمانيا والنمسا وكان مالكه يطمح أن تحاكى عمارته فنادق «سيزار ريتز» التجارية فى أوروبا.. وأصبحت العمارة الرائعة من أكبر المتاجر متعددة الطوابق وتظهر الكرة الأرضية فوقها لامعة براقة فى الليل.. وصادر الجيش البريطانى مع الحرب العالمية الأولى الممتلكات التى تعود للأجانب.. ثم تم منحه بعد ذلك ترخيصا مشروطا للتجارة مع «الإمبراطورية البريطانية» وتمت تصفية «المول» لفقدانه مصادر بضاعته بالفرمان البريطانى ثم انتقلت ملكيته بين عدد من الملاك كان آخرهم حسين عبد العظيم صاحب إحدى المدابغ الكبرى ثم تحولت طوابقه مع الزمن والإهمال إلى محال تجارية وورش ومخازن واحتل الباعة الجائلون مدخل العمارة الشهيرة وسيطروا عليها ولم يشفع لها تاريخها الذى تجاوز المائة عام بأن تحظى بالقليل من الاهتمام.. فمازالت «التحفة المعمارية» العالمية تدفع عن نفسها الإهمال وتنتظر قبلة الحياة.