قلما تجد في التاريخ الإسلامي رجلاً يجمع بين الأضداد، مثل محمود الغزنوي أو محمود بن سبكتكين، والملقب ب«يمين الدولة أبو القاسم». فهو قائد دولة، وفي نفس الوقت كان فقيهاً عالماً، بل يهتم أيضاً بعلماء الطبيعة والبحث العلمي. كان والده قائدًا عسكريًا يُسمى سبكتكين، لكنه لم يكن يثق فيه ثقة كبيرة، إذ أوصى قبل مماته بأن يُمنح ابنه الصغير إسماعيل الحكم، وبالفعل عندما مات وصل إسماعيل إلى بلخ وأعلن نفسه حاكمًا للدولة الغزنوية تنفيذاً لوصية والده، ولكن محمود الغزنوي الذي كان في نيسابور في هذا الوقت كان أكثر خبرة وتجربة وقوة من إسماعيل، ولأن محمود كان أكبر من إسماعيل وأحق بالحكم منه، عرض على إسماعيل أن يترك الحكم ويتولى خراسان وبلخ، إلا أن إسماعيل لم يوافق، حتى وقعت بينهما معركة حربية انتصر فيها جيش محمود الغزنوي، ولجأ إسماعيل إلى حصن، ثم قُتل بعدها بسبعة أشهر. اقرأ أيضا| «فطار فلكلوري» وسحور تاريخي بين أحضان « شارع المعز» علا شأن الدولة الغزنوية (التي أسسها أبوه) في فترة حكمه بفضل همته وحسن قيادته، إذ استطاع أن يغزو الهند بعد انتصاره في حوالي 17 معركة في 26 عاماً، فوسع من حدود مملكته التي ورثها حتى امتدت من بخارى وسمرقند إلى كوجرات وقنوج وشملت أفغانستان وبلاد ما وراء النهر وسجستان وخراسان وطبرستان وكشمير وجزءاً كبيراً من الولايات الواقعة في الشمال الغربي من الهند. واشتهر الغزنوي كذلك باسم «محطم الأصنام» حيث كان للهند صنم يسمونه سومنات، وهو أعظم أصنامهم وكان موجوداً في حصن حصين على ساحل البحر بحيث تلتقفه أمواجه، والصنم مبني في بيته على ستة وخمسين سارية من الصاج المصفح بالرصاص، ومن حجر طوله خمسة أذرع، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخصة، والبيت مظلم يضاء بقناديل الجوهر، وعنده سلسلة ذهب بجرس، وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب، وكانوا يحجون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر، لكن الغزنوي حطمه كاملاً. الغزنوي اهتم للغاية بالأدب والفنون، إذ كان يعيش في عهده كثير من العلماء والشعراء، منهم؛ ابن سينا وأبوالريحان البيروني وأبوالفتح البستي والعسجدي والفردوسي والبيهقي والكسائي. اشتهر بن سبكتكين بمحاربة البدع والرافضة، وأوضح ابن كثير، في كتاب «البداية والنهاية» أنه القادر بالله الخليفة استتاب فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرأو من الاعتزال والرفض والأفكار والمقولات المخالفة للإسلام، وامتثل الغزنوي بأمر أمير المؤمنين في ذلك، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم، ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنة في الإسلام. بحسب ابن كثير. كان للغزنوي دور كبير في إعلان خضوع دولته الضخمة وتبعيتها للخلافة العباسية ببغداد، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية. ظل السلطان محمود الغزنوي في جهاد دائم لا يهدأ فيه أو يتوانى، حتى لازمه مرض غريب أواخر أيامه، يقال إنه «السل»، لكن أعراضه تشبه كثيراً أعراض المصاب بفيروس كورونا حالياً، وكان يزداد عليه يوماً بعد يوم، حيث تحامل على نفسه أمام الناس، وكان لا يستطيع أن يكلم الناس من شدة المرض. ويؤكد ابن كثير في «الكامل» أن غزواته إلى الهند هي التي أنهكته جدًا، بل هي التي كانت سببًا في مرضه الغريب، والذي على الرغم منه لم يكن يستمع أبدًا إلى الأطباء، وقد عين نائبا له للقيام بالأعمال الضرورية، ومن ثم عاد إلى غزنة بسبب هواء تلك المدينة فقط، ولم يستطع أن يسترد عافيته فيها وتوفي في التاسعة والخمسين من عمره، وقبره بها ما زال معروفًا. عاشت الدولة الغزنوية ألمع فتراتها في عهده، ثم بدأت بالضعف ودخلت مرحلة السقوط بعد معركة داندقان التي وقعت في 432 ه، وهي من المعارك الحاسمة والفاصلة في تاريخ كل من الغزنوية والسلاجقة ونتج عنها هزيمة الدولة الغزنوية في عهد السلطان مسعود بن محمود الغزنوي على يد السلاجقة الذين كانوا آنذاك يتوسعون في هضبة إيران، فاحكموا سيطرتهم على خراسان وما وراء النهر وظفروا باعتراف الخليفة العباسي وقيام دولتهم.