عقود سحيقة تسحب العقول والخيال إلى أزمان يغيب عنها الكاميرات، فحين تتحدث السماء، تنقلب الحياة رأسا على عقب فتضحى الدنيا سم خياط على نبي أو ولي أو سيدة آنس الإيمان قلبها في زمن موحش بالجبابرة، يأتي الفرج على لسان رضيع في المهد أو من سبقه في الأرض بشهور. اللسان نعمة إلهية على بني البشر؛ لكن النطق تدريب ومشقة يتحملها الرضيع منذ المهد حتى سنوات الحكمة، وبين يوم وخمس سنوات يختزن مفردات لغته لتسعفه عند الحاجة، يستبدل بكاءه بجمل تخلوها الفطنة؛ لكن أن ينطق في مهده فهذه حقائق غابت عن الكبار قبل أن يتعلم البكاء، فهي معجزة جاءت على أيدي سبعة من بني البشر، ليس أولهم نبي الله «المسيح عيسى بن مريم».
4 نطقوا الحق
أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الواردة في اثنين من كتب الصحاح الستة «البخاري ومسلم» أثبتت أربعة رضع وأطفال نطقوا الحق في مهد حياتهم، أشهرهم كان نبي الله عيسى بن مريم، وابن الباغية صاحب جريج الراهب، ورضيع سيدة من بني إسرائيل أوقف دعاءها بشر كانت تحسبه خيرا، وطفل ساق أمه إلى جحيم نار «ذي نواس» لتخطو معه إلى الجنة، غير أن الثلاثة الباقين اختلف عليهم العلماء.
اقرأ للمحرر أيضًا| «الجرس قبل الأذان».. حين أمر النبي بضرب الناقوس للصلاة
رسولة الصمت تحصنت بالسكوت، اعتصر قلبها دون صرخة، هي مريم ابنة عمران، حيث غابت عن الأعين، ومكثت زمنا حتى جاءت قومها تحمل طفلا، تخطو قدماها لا تخاف المصير لكن قلبها تعصره العواصف من المواجهة، تعلم أن أذنها ستسمع أشد خادشات حياء عذراء أنجبت دون أن يمسها بشر، هنا تحققت المعجزة.. «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» فكان نبي الله المسيح عيسى بن مريم.
«اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات».. دعاء كان بداية قصة جريج الراهب، بعد أن فضل صلاته على إجابة نداء أمه، فكان على شريعة نبي الله عيسى عليه السلام، بنى صومعة يتعبد فيها حتى جاءته امرأة تفتنه فلم يعر إليها التفاتا، اغتاظت فكادت، مكنت نفسها لراعي غنم، حملت منه ثم وضعت، وادعت أنه ابن الراهب، هدموا صومعته ربطوه وطافوا به مسحولا، استأذنهم أن يمهلوه، فنكز الرضيع بإصبعه وقال من أبوك؟ فقال المولود: الراعي.
جبار من جبابرة التاريخ كان «ذو النواس» أحد الملوك الحِميَّريين باليمن القديم في القرن الخامس الميلادي، صاحب إحدى أسوأ مذابح التاريخ، فإذا كان القائد الألماني أدولف هتلر نصب أفران لحرق اليهود، فقد سبقه ذلك الجبار يهودي الديانة بنصب أخاديد مشتعلة بجحيم تنصهر فيه المعادن، قذف فيها كل من على دين نبي الله عيسى بن مريم، فتقاعست امرأة من هول النيران، فقال رضيعها: «يا أٌمَّة اصبري فإنك على الحق» فألقت بنفسها هربا بإيمانها في النار، في قصة أورتها سورة «البروج» في القرآن الكريم.
الرابع ذكره النبي محمد في ثالث ثلاثة ليس من بينهم ابن صاحبة الأخدود؛ إذ حكا النبي، صلى الله عليه وسلم عن امرأة فقيرة من بني إسرائيل أمة نبي الله موسى بن عمران، كانت ترضع طفلا لها، وفي ذات يوم مر عليها فارس متأنق في ملبسه، عليه هيبة من حلة القتال، يعلوه على الأرض فرس يزيد من هيئة هيبته، تمنت الأم أن يكون ولدها مثله، فترك الرضيع ثدي أمه ونطق بدعاء: «اللهم لا تجعلني مثله».
هؤلاء أربعة ذكرتهم كتب السنة الصحيحة، لكن بين دفات كتب الأولين والآخرين أوصلهم بعض أصحابها إلى أربعة عشر رضيعا تكلموا غير أن هذا الرقم شكك فيه بعض العلماء، وهم أنبياء الله: «نوح، وإبراهيم، ويوسف، وموسى، ويحيى، ومحمد، عليهم جميعا السلام، وأضافوا «مريم أم المسيح، وشاهد نبي الله يوسف بن يعقوب، وابنة ماشطة فرعون، ومبارك اليمامة في زمن النبي محمد».
اقرأ للمحرر أيضًا| أكل المخاصي «حرام».. ماذا لو كان رأي «أبو حنيفة» صائبًا
الأربعة عشر جمعهم جلال الدين السيوطي في أبيات شعر أوردها في كتابه «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي»، وهم: «تكلم في المهد النبي محمد.. ويحيى وعيسى والخليل ومريم، وميرة جريج ثم شاهد يوسف.. وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم، وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم، وطفل ماشطة في عهد فرعون، وفي زمن الهادي المبارك، ثم زاد بعضهم ورد لهم نوحًا ويوسف بعده، ويتلوهم موسى الكليم المعظم».