في الحقيقة، مما استرعي انتباهي عن ذلك التغير الذي انتابني كشخص متفائل بطبعه، بل إنني استشعرت الخطر في أن «أضحك»!وتمنيت أن تتوقف «ماكينة» الضحك العملاقة في أوائل السبعينيات أتيح لنا أن نري فيلما، في السينمات العامة، اسمه «الموت حبا»، يحكي قصة حب مدرسة ثورية «ثلاثينية»، لتلميذها ذي ال17 عاما، تهيم المدرسة بالتلميذ ويهيم بها، وتتعرض، لازدراء المجتمع بكامله، وللمحاكمة، والإخضاع للعلاج النفسي، ورغم أن قصة الفيلم تبدو غير أخلاقية، فإنها تدور في الأجواء المشتعلة لثورة 68 في فرنسا، و»الثورات تبيح المحظورات»، إذا جاز لي التحوير، فتبدو القصة لامجرد قصة حب، وإنما صراع بين قيم قديمة وقيم جديدة، بين التقاليد البالية والسلطة الأبوية، وإعلاء لقيمة «الحرية» التي لاتتجزأ، والتي صنعت دولة قوامها الحرية كفرنسا. أظن أن القارئ «يضحك» علي فكرة الفيلم، وأوقن أنه لايمكن أن يعرض في مصر هذه الأيام، فما يعرض الآن أفلام أخري؛ كفيلم «خاطف الطائرة»، وماأوهمنا به من ظلال «عاطفية»! وهوما أثار موجات عارمة من «الضحك»، لدي النساء خاصة، ممزوجة بالتحسر علي معاملة أزواجهن لهن، وسرعان ما اشتعلت المواقع بالنكات؛ من قبيل: «أنا عاوزة ورد يا إبراهيم»، وغيرها، وسرعان ماساهم الرجال أيضا في السخرية منهن ومنه، وصارت النكات، «تجري وراء النكات عايزة تطولها»، ثم هدأ الأمر، وكأن شيئا لم يكن! انتظارا لحدث آخر، ونكات أخري. ماجعلني أتذكر الفيلم في هذا السياق، وأحرف قليلا في عنوانه، هو مناخ الثورة الذي يظلل المشهدين، ولأن «الضحك» هو مايميز المصريين، كشعب «ابن نكتة»، حتي أن ثورتهم نفسها لقبت «بالثورة الضاحكة»، بدا الضحك كأنه بلانهاية، كأنه يبحث عن معناه، يتوقف، تعبا، ليواصل مسيرته المجهدة، حتي وإن كان مايحدث غير باعث علي الضحك، بل علي «الأسي»! لنصبح كبطل الأسطورة الإغريقية «سيزيف»، حين خدع إله الموت، فعاقبته الآلهة بأن يحمل صخرة إلي أعلي الجبل حتي إذا ماوصلت قمته تدحرجت ليرفعها من جديد إلي القمة، إلي الأبد، ويصبح رمزا للعذاب الأبدي. لم أستطع في حادثة الطائرة أن أضحك، في الحقيقة، مما استرعي انتباهي عن ذلك التغير الذي انتابني كشخص متفائل بطبعه، بل إنني استشعرت الخطر في أن «أضحك»!وتمنيت أن تتوقف «ماكينة» الضحك العملاقة الدائرة هذه؟! وتساءلت: لماذا دارت في قلب هذا الرعب؟! رعب الحادثة، ورعب عواقبها.الفيلسوف «برجسون» يخبرنا في كتابه (الضحك- ت.سامي الدروبي)، أن «عدم التأثر» يصاحب الضحك عادة، فاللامبالاة هي الوسط الطبيعي الذي يعيش فيه، وألد أعدائه «الانفعال»، يستلزم الضحك، أن نُسكِت شعورنا بالمحبة،أو الشفقة، تجاه شخص ما، للحظات، كي نضحك عليه، ماكان غريبا بالنسبة لي أن توقّف المحبة وإسكات الشفقة، لم يكن للحظات، وإنما لأيام، ظلت فيها ماكينة الضحك تهدر دون توقف، موجات متلاحقة من الضحك الهستيري، كصخرة سيزيف في عذابها الأبدي، وعبثيتها! من آثر «النكد» مثلي، وسد أذنيه عن النكات، بدا شبيها بمثال أورده برجسون أيضا، يقول:» يكفي أن نسد آذاننا دون أصوات الموسيقي، وفي قاعة رقص حتي يبدو لنا الراقصون مضحكين»! فعند أصدقائنا الضاحكين بدونا نحن «النكديين» مضحكين، وعندنا بدت ضحكاتهم كراقصين دون موسيقي! كان ثمة تواطؤ بين الضاحكين علي الضحك، وتواطؤ من «النكديين» علي محاولة تفهم ماستؤول إليه الكارثة التي تسبب فيها ذلك الأحمق، ومن قبله السياسات العقيمة، في قطع أرزاق أسر لم تتعاف بعد من آثار ثورتنا الضاحكة. منذ أسبوعين كتبت مقالا عن زلات اللسان، أشرت فيه إلي اضطراب نفسي هو «الوسواس القهري»، حين تتسلط علي شخص فكرة، يقتنع بسخافتها، لكنه لايستطيع الإفلات منها، ولأن للضحك دلالة اجتماعية، يري فيه فيلسوف آخر،هو «سبنسر»: «علامة الجهد الذي يلتقي فجأة بالفراغ»ويراه الفيلسوف «كانت» :»الضحك ينشأ من انتظار ينحل فجأة إلي لاشئ»، يصبح لزاما علينا أن ننتبه لدلالة «ماكينة الضحك»، وبواعثها، وعواقبها، فقد تكون وسواسا قهريا! أوعبثية صخرة سيزيف، أو حالة انتحار جماعية تدق كل يوم، لمن بيدهم الأمر، ناقوس الخطر!