تراجع أسعار الذهب اليوم السبت في منتصف التعاملات    الرئيس السيسى: لابد من خروج كافة القوات والميليشيات الأجنبية من ليبيا    أشرف العشري: كلمة الرئيس السيسي بالقمة العربية جاءت شاملة وجامعة    تدريبات تأهيلية للجفالي وجهاد في مران الزمالك    النيابة تأمر بحبس متهم لإعادة نشر مقطع مصور من شأنه تكدير السلم والأمن العام    الإعدام لميكانيكي وربة منزل والمؤبد لشقيقها قتلوا شخصا بكرداسة    جولة في منزل عادل إمام.. أسرار فيلا المنصورية «صور»    رئيس جامعة القاهرة يفتتح ورشة عمل «أسرتي قوتي» بمشاركة «القومي للإعاقة»    إيفرتون يعلن رحيل أشلي يونج    بسبب عدادات الكهرباء..آخر فرصة لتظلمات سكن لكل المصريين 5    جدول مواعيد الصلوات الخمس في محافظات مصر غدًا الأحد 18 مايو 2025    موجة حارة تضرب البلاد.. درجات الحرارة تصل إلى ذروتها في بعض المناطق    انتشال جثمان شاب غرق أثناء استحمامه بترعة البحر الصغير في الدقهلية    الأنبا مكاريوس: نُحيي تاريخنا لإيقاظ الوعي.. والمنيا أغنى بقاع مصر حضاريًا    المخرجة مي عودة: الوضع يزداد صعوبة أمام صناع السينما الفلسطينية    المدير الفني ل"القاهرة السينمائي" يناقش بناء الروابط بين مهرجانات الأفلام العربية في "كان 78"    فيلم فار ب 7 أرواح يفرض نفسه على دُور العرض المصرية (تفاصيل)    بمناسبة مرور 80 عامًا على تأسيسه.. «قسم جراحة المسالك البولية بقصر العيني» يعقد مؤتمره العلمي    مصدر مقرب من الملالي يكشف ل في الجول حقيقة المفاوضات مع الزمالك    تُربك صادرات الدواجن عالميًا.. أول تفشٍ لإنفلونزا الطيور يضرب مزرعة تجارية بالبرازيل    حفظت جوزها بالملح 30 يومًا وهربت.. تطور جديد في واقعة طبيب 15 مايو    آخر تحديث للحصيلة.. إصابة 46 طالبة بإغماء في جامعة طنطا بسبب ارتفاع الحرارة -فيديو    "إلى من شكك في موقفنا".. عضو مجلس إدارة الزمالك يكشف تطورًا في أزمتهم مع الراحل بوبيندزا    وزارة التخطيط تعقد ورشة عمل دعم تطوير الخطة القومية للتنمية المستدامة    المشروعات الصغيرة والمتوسطة ب"مستقبل وطن" تناقش خطة عمل الفترة المقبلة    كلية التجارة بجامعة القاهرة تعقد مؤتمرها الطلابي السنوي الثاني تحت شعار "كن مستعدا" لتمكين الطلاب    هل يجوز سفر المرأة للحج بدون محرم؟.. الأزهر للفتوى يجيب    فليك: نريد مواصلة عدم الهزائم في 2025.. وعانينا بدنيا بالموسم الحالي    لبيك اللهم لبيك.. محافظ المنيا يسلم ملابس الإحرام لحجاج القرعة.. فيديو    جراحة دقيقة لتحرير مفصل الفك الصدغي باستخدام الذكاء الاصطناعي في مستشفى العامرية    بالأسماء، ارتفاع عدد المصابات بإغماء وإجهاد حراري بتربية رياضية طنطا ل 46    عيد ميلاده ال 85.. ماذا قال عادل إمام عن كونه مهندسا زراعيا وموقفا لصلاح السعدني؟    قرار عاجل من المحكمة في واقعة اتهام البلوجر روكي أحمد بنشر فيديوهات خادشة للحياء    هل يجوز توزيع العقيقة لحومًا بدلًا من إخراجها طعامًا؟.. أمين الفتوى يجيب    برلماني يطالب بدعم نادي الشرقية وتطوير استاد المحافظة    قافلة بيطرية تجوب قرى شمال سيناء لحماية المواشي من الأمراض    وزارة الزراعة تعلن تمديد معرض زهور الربيع حتى نهاية مايو    "الزراعة" تطلق حملات بيطرية وقائية لدعم المربين وتعزيز منظومة الإنتاج الداجنى    الأوقاف: الطبيب البيطري صاحب رسالة إنسانية.. ومن رحم الحيوان رحمه الرحمن    «أم كلثوم من الميلاد إلى الأسطورة» في مناقشات الصالون الثقافي بقصر الإبداع    وفاة ابن شقيقة الفنان عبد الوهاب خليل.. وتشييع الجنازة في كفر الشيخ    أكاديمية الشرطة تنظم ندوة حول الترابط الأسري وتأثيره علي الأمن المجتمعي (فيديو)    قرار هام من التعليم ينهي الجدل حول «عهدة التابلت»    مستقبل وطن: القمة العربية ببغداد فرصة لتعزيز الجهود وتوحيد الصفوف    الصحف العالمية اليوم: تراجع ثقة المستهلك فى الاقتصاد رغم تعليق ترامب للرسوم الجمركية.. "رجل مسن ضعيف الذاكرة" ..تسجيل صوتي يظهر تراجع قدرات بايدن الذهنية .. بريطانيا تشكك فى اعتراف ماكرون بفلسطين فى يونيو    «فتراحموا».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة    فتح ترحب ببيان دول أوروبية وتدعو لإلغاء اتفاقية الشراكة مع إسرائيل    وزير التعليم العالي: المترولوجيا أحد ركائز دعم قطاعي الصناعة والبحث العلمي لتحقيق التنمية المستدامة    عيد ميلاد الزعيم.. عادل إمام: عبد الحليم حافظ دخل قصة حب ولا أعتقد أنه تزوج    باسل رحمي: جهاز تنمية المشروعات يحرص على إعداد جيل واعد من صغار رواد الأعمال و تشجيع المبتكرين منهم    تحرير 143 مخالفة للمحال غير الملتزمة بقرار مجلس الوزراء بالغلق    فص ملح وداب، هروب 10 مجرمين خطرين من السجن يصيب الأمريكان بالفزع    أسعار ومواصفات شيفرولية أوبترا موديل 2026 في مصر    حكم من نسي قراءة الفاتحة وقرأها بعد السورة؟.. أمين الفتوى يوضح    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تدريبات جوية ويدعو لتكثيف الاستعداد للحرب    مسودة "إعلان بغداد" تشمل 8 بنود منها فلسطين والأمن العربي والمخدرات والمناخ    تشيلسي ينعش آماله الأوروبية بالفوز على يونايتد    أكرم عبدالمجيد: تأخير قرار التظلمات تسبب في فقدان الزمالك وبيراميدز التركيز في الدوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الأزهر يؤكد على الحاجة لمراجعة أمينة لبعض مفاهيم التراث الإسلامي

أكد شيخ الأزهر د.أحمد الطيب، علي الحاجة لمراجعة أمينة وقراءة نقدية لبعض المفاهيم في التراث الإسلامي وبيانها للناشئة في مقررات دراسية جادة تسهم في تحصينهم من الجماعة المسلحة.
وطالب شيخ الأزهر، خلال كلمتِه الافتتاحية بمُنتدى تعزيزِ السِّلم في المُجتمعاتِ المُسْلِمَة بالإمارات الثلاثاء 28 إبريل، بضرورة الاتفاق على رؤية إستراتيجية واضحة المعالم لانتشال الشباب من حالة الإضراب والتذبذب العقدي والفكري في إدراك أصول الدين وأمهات قضايا العقيدة والأخلاق.
وقال الطيب إنه "لا يظن أنَّ هناك دينًا من الأديانِ ولا نِظامًا اجتماعيًّا أو دستوريًّا رَحم الإنسان وعَصمَ دمه مثل ما عصمه نبيُّ الإسلام" لافتا إلي أن علاقة الإنسان المسلم بغيره علاقة زمالة وصحبة وارتفاق، تقوم علي مبدأ السلام والتعارف.
كما شدد علي ضرورة جمع الكتب والمجلات التي تصدرها الجماعات الإرهابية المسلحة وتصنيفها ونقضها جملة وتفصيلاً.
وانتقد شيخ الأزهر الحملات التي تشنها وسائل الإعلام علي الخطاب الديني باعتباره المسئول الأول والأخير عن ظهور داعش وأخواتها، واصفًا تلك الحملات ب"السطحية".
وفيما يلي نص كلمة شيخ الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمّد النبي الأمي وعلى آله وصحبه..
سمو الشيخ/ عبد الله بن زايد آل نهيان - راعي المنتدى
السَّادَة العُلَمَاء والمُفَكِّرون والمُثَقَّفُون!
الحَفْلُ الكَريم! السَّلامُ عَليكُم وَرَحمَة الله وَبرَكَاتُه..
في بِداية كَلِمَتي هَذِه يَسُرني أنْ أتقدَّم بِخَالِص الشُّكر والتَّقدير لِدَولَة الإمَارات العَرَبيَّة المُتَّحِدة: حُكومةً راشِدة، وشَعبًا نبيلاً، لرعايتها الكَريمة لِهَذا المُنتَدى، وحرصها المشكور على انعقاده كُل عام، بحُضور دُعَاة السَّلام ومُحبِّي الإنسَانيَّة مِن كُلِّ أصقاع الدُّنيَا.
كَمَا يُسْعدني أنْ أزجي الشُّكر مَمزوجًا بالتَّقْدير والإِكبَار لأخي الشَّيخ الجَليل فضيلة الدكتور عبد الله بن بيه رئيسِ هذا المُنتَدى على هذا الجُهد الكَبير فيإعداد هذا المُنتَدى الَّذي نَرجو له النَّجَاح والتَّوفِيق وتحقِيق المقَاصِد والغَايات.
وإذا كانت الورقة التَّصويريَّة قد حَدَّدَت غاية هذا المُلتقى في إعادة الكَشف عن ثقافة السِّلم وبَيان محوريته في الإسلام: مِن خِلال قِراءة دَقيقة لنُصُوص الوحي وتُراث السَّلَف، فإنَّ هَذِه الغَاية لا شَكَّ هي مِن أنبَل الغايَات الَّتي يجب أنْ تَتوفَّر عليها أقلام أهل الاختِصاص، لإِزالة مَا رانَ على فِقه السَّلام من ظُلمَات بعضها فوق بعض، بسبب القراءة المغلوطة والتَّفسيرات الملتوية، التي أدَّت إلى أنْتتحوَّل الأسلحة في أيدي جماعة من المسلمين إلى صدور مجتمعاتهم وأهليهم بعيدًا عن صُدور أعدائهم ومقاتليهم.
نعم نَحْنُ الآن في أشدّ الحاجَة إلى مراجعة أمينة وقراءة نقدية لهذه المفاهيم في تراثنا الإسلامي، وبيانها للنَّاشِئة مِن التَّلاميذ ولِطُلَّاب الجَامِعَات في مُقرَّرات دِراسِيَّة جادَّة تسهم في تحصين شَباب العَرَب والمسلمين من الوقوع في براثن هذه الجماعات المُسَلَّحة، ولا مفرّ لمنتدانا هذا من دعوةالمُختَصِّين واجتماعهم للاتفاق على رؤية استراتيجية واضِحة المَعَالِم بَيِّنة الأهداف والغَايات لانتِشال شبابنا من حالة الاضطراب والتَّذَبذُب العَقديوالفكري في إدراك أُصُول الدِّين وأُمَّهَات قضايا العقيدة والأخلاق، إلى حالة الهدوء النَّفسي والاستقرار الإيماني والفَهمِ الصَّحِيح لدين أسهَم في صنع حضارة عالميَّة، وتأسيس أخوة بشريَّة، وزمالة عالميَّة لم يُنسج على مِنوالها حتَّى يَوم النَّاس هذا..هذه الحضارة الَّتي لَمْ تَكُن لتنتَشر من غَربالمعمورة إلى شرقها في فترة زمنية قصيرة حيَّرت عُلَمَاء التَّاريخ والحضَارة حَتَّى اليَوم - لَولا ارتكازها على مبدأ السَّلام بين النَّاس، ولَولا أنَّ نبيَّ هذه الحضارة قد بُعث رحمة للعالمين أجمعين، ولم يُبعَث رحمة للمسلمين فقط، أو لعَالَم الإنسانية فحَسب بل كما بُعث رحمة للإنسان بُعث أيضًا رحمة للحيوان والنَّبات والجَماد، »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ«{الأنبياء: 107}، والرَّحمَة يلزمها السَّلام، بل هي مع السَّلام وجهان لعُملة واحدة، ومَا أظُن أنَّ هُنَاك دينًا من الأديانِ ولا نِظامًا اجتماعيًّا أو دستوريًّا رَحم الإنسان وعَصمَ دمه مثل ما عصمه نبي الإسلام.. ومن المؤكَّد أن القرآن الكريم هو الكتاب الأوحد الذي جمع على قاتل الناس عقوبتين: القصاص في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.. ويكفي أنَّ القُرآن يسوي بين قتل نفس واحدة -بغير حق أو فسادٍ في الأرض- وقتل سَائِر النَّاس، وبين إحياء هذه النَّفس وإحياء جميع البشر.. «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»{المائدة: 32}. بل إنَّ الإسلام ليُحرِّم مجرد ترويع الإنسان وتخويفه، حتى لو كان التَّرويع على سَبيل المُداعبة والمزاح، يقول النبي «منْ أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعنُهُ حتَّى يَدَعهُ وإن كان أخاه لأبيهِ وأُمِّهِ»( )، وقال: «لَايَحِلُّلِمُسْلِمٍأَنْيُرَوِّعَمُسْلِمًا»، ولقد بلغت رحمته ورفقُه بالحيوان أنَّه رأى مرة جملاً تتساقط الدموع من عينيه، وتبدو عليه أمارات التَّعَب والإرهاق، فاستدعى صاحب الجمل وكان غُلامًا من الأنصار وقال له: «أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه»، ولا ينبغي أن نستنكر– أيُّهاالإخوة- هذا التَّواصل الحَي بين الأنبياء وبين الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد، أو نستبعد حدوثه انطلاقًا من أنَّ النَّاس لا يعرفون حيوانًا تحدَّث إلى إنسان وشكى إليه، فإنَّك لو ذهبت تتعرَّف على علاقة الإنسان بالكائنات في منظور الإسلام، فإنَّه سَيُدهشك أن تعلم أن هذا الكون بكل عوالمه– في منظور القُرآن الكَريم- ليس ميتًا أو جمادًا أصم محرومًا من الوعي والإدراك ومن حياة تناسبه، وصَريح القُرآن يدل دلالة واضحة على أنَّ هذا الكون بكل عناصره، أيًّا كانت هذه العناصر، يعبُد الله ويُسبِّحه، بل ويَسجُد له أيضًا، وإنْ كُنَّا نفقد الأهلية والشروط التي تمكننا من أنْ نرى سجوده أو نفقَه تَسبيحه، والآيات الواردة في هذا الشَّأن كثيرة جِدًا وتُفتتح بها سور عِدَّة، والعَقل لا يتصوَّر تسبيحًا ولا سجودًا من ميِّت لا إدراك له ولا حياة فيه، بل وصف الحياة للكائن المُسَبِّح السَّاجد يسبق بالضَّرورة وصفه بالسُّجود والتَّسبيح: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»{الإسراء: 44}، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ» {الحج: 18}، "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» {سبأ: 10}، ومعنى أَوِّبِي معه: «رجِّعِي معه» الذِّكر والتسبيح.
وبِهذا المَنطق نفهَم قول النَّبي فيما رواه الإمام مُسلم: «إِنِّيلَأَعْرِفُحَجَرًابِمَكَّةَكَانَيُسَلِّمُعَلَيَّقَبْلَأَنْأُبْعَثَإِنِّيلَأَعْرِفُهُالْآنَ»( )، وانطِلاقًا مِن هَذِه النُّصُوص القاطِعة يَتبيَّن لنا أنَّ علاقة الإنسان المسلم بغيره أيًّا كان هذا الغير إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا هي في فلسفة الإسلام علاقة زمالة وصُحبة وارتفاق، تقوم أوَّل ما تقوم على مبدأ السَّلام والتَّعارُف، وأنَّ الإسلام من هذا لمُنطلق تحديدًا لا يُبيح القَتل إلَّا في حالة واحدة وحيدة هي ردّ الاعتِداء، أو استيفاء حَقّ من حُقوقِ الله تعالى الثابتة بنص قطعي الدَّلالة والثُّبوت، ومن هُنَا ندرك لماذا حَرَّم الإسلام على المُسلِمين قتل الضُّعَفَاء في مُعسكر العَدو، ومنع من هَدم بنيانهم، وحرق أشجارهم وقتل نحلهم وحيواناتهم إلَّا لضرورة الأكل وعلى قدرها، لا تتجاوزه ولا تتعداه وذلك لأن كل أولئك لا يتصور منهم عُدوان ولا اعتداء، حتَّى قال الأديب المشهور (مصطفى الرافعي): "إنَّ لسيوف المُسْلِمين أخلَاقًا".
.. .. ..
أيُّهَا الحَفْلُ الكَريم:
إنَّ مُهِمَّة إحيَاء فِقه السَّلام في دينِ الإسلام: أصُولًا وتُراثًا أمر لَمْ يَعُد ترفًا أو خيارًا مُمكِنًا، بل هو أشبه بطوق النجاة الآن. وحسنًا فعل هذا المنتدى الكريم في تبنِّى مسؤولية جَمع هذا الفِقه وتجليته للخامل والنَّبِيه على السَّواء، وأرى أن يتبنَّى المُنتدَى بالتَّوازي عمَلًا آخر هو جمع الكُتب والمجَلَّات التَّي تصدرها الجماعات الإرهابية المُسَلَّحة، وبخاصَّة عبر وسائِل النشر الإلكترونيَّة، وتظهر بأكثر من لُغة غير اللُّغة العَرَبيَّة، والَّتي تحمل خَطرًا داهِمًا على الشَّباب، هذه الكتب والمقالات لابُدَّ من جمعها وتَصنِيفها ونقضها جُملةً وتفصيلًا، وثَمَّة عمل ثالث لابُدَّ مِنه لِمُحَاصَرة القواعِد العقديَّة الَّتي تنطلق منها جماعَات القَتل المُسَلَّحة، وبِخَاصَّة: قاعِدة التَّكفير، أو مَبدأ التَّكفير الَّذي أصَّلوه في أدبياتهم وضَلَّلوا به قِطَاعًا عَريضًا مِن الشَّباب المُسلِم في الشَّرقِ والغَرب، ومِن المُحزِن – أيُّها الحَفلُ الكَريم - أنْ تصدر في هَذِه الأيَّام الصعبة الَّتي نعيشها الآن كُتب ومَنشُورات بأقلام طائفة مِن المُنتَسبين للعِلم، يتناولون فيها مسألة التَّكفير، ويفرِّقون فيها بين التَّكفير الجَائِز وهو تكفير المُطلق وتكفير المُعيَن الجَائِز بشروط، ومثل هَذِه الأقوال لَا تُناسِب ظروف الأُمَّة الآن بِحال من الأحوال، ولَا تدعم قَضيَّة السَّلام الَّذي نسعى إليه جميعاً، ونَحْنُ لا نُنَاقِش هُنَا مَسألة تكفير المُطلق وتكفير المعيَن، وكيف أنَّ هذا التَّقسيم لَمْ يَرِد في كِتاب ولا سُنَّة، وإنَّما هو مِن أقوال المُتأخِّرين، الَّتي تخضع لإعمال النظر والأخذِ والرَّد. ولكنا نُنبِّه فقط إلى أنَّ بعض الفتَاوى أو الأحكَام الَّتي يَصدرها هذا الفَقيه أو ذَاك في العُصُور الخَوالي إنَّما صَدَرت لِمُواجَهة ظروف استِثنائيَّة لا يُمْكِن القِياس عليها الآن، وقَضيَّة التَّكفير أصدَق مِثال على دعوانا هَذِه، حيثُ نرى جماعات الإرهاب المُسَلَّح اليَوم تستند إلى أحكام يَنقلونها عن ابن تَيمية وابن كَثير رَحِمَهما الله، تَنُص على أنَّ النُطق بالشَّهادتين لا يَكفي للحُكْم بإسلام الشَّخص، بَل لابُدَّ من اقْتِران العَمَل بهما والخُضُوع الكَامِل لأحكَام الإسلام، والالتِزام "بالدِّفاع عن الجَماعة والدَّولَة الإسلاميَّة والشَّريعة"، فإذا خَرج المُسْلِم، أو المُسْلِمُون عن هَذِه الشُّروط فَهُم كُفَّار يَجب قِتالهم.. وجَليَّة القَول في هذا الفَهم المَغلُوط أنَّ ابن تيمية رَحِمَه الله إنَّما قال ذلك الكلام في القرن السَّابع والقرن الثَّامن الهجريين، وكان مشغولًا بمُواجهة المعَارك العَنِيفَة الدَّامية بين المسلمين وغارات التَّتار الذين أسقطوا بغداد واستولوا على الشَّام ووصَلوا إلى مصر التي هزمتهم في عين جالوت.. وكان التَّتار في ذلكم الوقت يُظهرون إسلامهم ويُبطنون كُفرهم، وكان حُكَّام الدُّويلات المُسْلِمة لا يجدون حرجًا من الاستعانة بهم في السَّيطرة على ما تبقَّى في أيديهم من البِلاد، وفي هذه الظروف تحديدًا قال ابن تيمية مَا قال من أنه لابُدَّ مِن اقِتران العَمَل بالشَّهادتين حتَّى يَمتاز المسلم عن غيره من المُتظَاهرين بالإسلام الذين يَكيدون للمسلمين ويقتلونهم.. والسُّؤال هو: كَيف يَصِحّ قياس مُجتمعاتنا الإسلاميَّة الآن على مجتمعات اختلط فيها المُسْلِم بالكافر والمُنافق، والعَرَب بالتَّتار والمَغُول؟! وهل يمكن أن يسوَّى في الحُكم الواحد بين المجتمعات المُسْلِمة في القَرن الواحد والعشرين وبينها في القرن السَّابع والثَّامن الهجريين!! وكيف أُلغيت كُل الفُروق والسِّياقات والمُلابسَاتِ الفقهيَّة والسِّياسيَّة والظروفِ القاسية الَّتي أثمرت هذا النَّوع من الفَتَاوى المؤقَّتة لِتطُل برأسها من جديد وتُبرِّر لجماعات التكفير إعلان الجِهاد على مجتمعات تُؤمن بالله ورسوله وتُقيم الصَّلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصُومُ رمضان وتحج إلى بيت الله الحَرام، ثُمَّ أين ما اتَّفق عليه فقهاء الأمة من أنَّ الفَتوى تَتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والظروف والأحوال!!.
إنَّ هَذِه الفَوضى الدَّمَويِّة- الَّتي تتَّخِذ من مَقُولة التَّكفير حُجَّةً وسَندًا- تحتاج إلى استِنفار علمائي يَتصَدَّى لهذه الفِتنة في كُل عَواصِم العَالَم العَرَبي، بَل في كُل مَدينة فيه، ولا يَتحقَّق ذَلِك إلَّا بالنزول إلى حقول التَّعليم وبخاصَّة: التَّعليم قَبل الجامعي.. ولَعَلَ اجتماعًا يلتقي فيه المسئولون عن التَّعليم في العالم العربي وأيضاً المسؤولون عن المدارس والمعَاهِد الدِّينية لِوضع مَنهج عِلمي مُشترك يستند إلى رأي الجمهور في النَّهي عن التَّكفير نهيًا قاطعاً لا لفَّ فيه ولا دوران، ويصاغ في مُقرَّر دراسي جاد يفند أغاليط التَّكفيريين تفنيدا فكريًّا وتربويًّا على مستوى الوطن العَرَبي- أقول لَعَلَ اجتماعًا كهذا أصبَح الآن ضَرورة من الضَّرورات القُصوى، ذلكم أن التركيز على التَّعليم أو الخِطاب التَّعليمي أهَم وأجدى من التَّركيز على خِطَاب الجُمهور، لأن القَاعِدة العَريضة من الجَماهير لاتزال مُحصَّنة ضِدَّ ثقافة التَّكفير، بِخلاف الجيل الجَديد الَّذي يعول في اكتساب المعرفة على وسائل الاتصال الإلكترونية، وهي مُخترقة اختراقًا كاملًا من قِبل هذه الجماعات، وتستهدف أوَّل ما تستهدف شباب الطلاب من المرحلة الثانويَّة والجامعيَّة.
واسمحوا لي أيُّها السَّادة الفُضلاء أن أختم كلمتي ببيان أنَّ الحملات التي تشنها وسائل الإعلام على الخطاب الدِّيني بحسبانه المسؤول الأوَّل والأخير عن ظهور "داعش" وأخواتها وبنيها وحفدتها هي حملات تتصف بالسطحية في تبسيط الأمور، وهي إذ تختزل أسباب ظهور هذه الجماعات في سبب واحد هو: الخطاب الدِّيني فإنها تتغافل أو تتعامى عن عوامِل أخرى دفينة دفعَت بهؤلاء الشباب إلى انتهاج العنف المُسَلَّح كحل أخير يائس لتغيير مجتمعاتهم! إنَّ الإخفاقات المتتالية وثقافة التهمييش التي عاشها هذا الجيل على أكثر من مستوى أسهمت إسهامًا واضحًا في شعور الكثيرين بالإحباط واليأس، وبخاصة الإخفاقات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والنَّفسيَّة، والخِطاب الدِّيني وحده لَيس هو الحَل، بل هو جزء من حل المشكلة، فهناك خطابات عِدَّة: سِياسيَّة واقتصاديَّة وتعليميَّة وثقافيَّة وإعلاميَّة وفنيَّة كانت كلها معاول هَدم وتحطيم لآمال النَّاس وأحلامهم وتحتاج الأن إلى إصلاح لا يقل شأنًا ولا خطرًا عن إصلاح الخِطاب الدِّيني.
أكد شيخ الأزهر د.أحمد الطيب، علي الحاجة لمراجعة أمينة وقراءة نقدية لبعض المفاهيم في التراث الإسلامي وبيانها للناشئة في مقررات دراسية جادة تسهم في تحصينهم من الجماعة المسلحة.
وطالب شيخ الأزهر، خلال كلمتِه الافتتاحية بمُنتدى تعزيزِ السِّلم في المُجتمعاتِ المُسْلِمَة بالإمارات الثلاثاء 28 إبريل، بضرورة الاتفاق على رؤية إستراتيجية واضحة المعالم لانتشال الشباب من حالة الإضراب والتذبذب العقدي والفكري في إدراك أصول الدين وأمهات قضايا العقيدة والأخلاق.
وقال الطيب إنه "لا يظن أنَّ هناك دينًا من الأديانِ ولا نِظامًا اجتماعيًّا أو دستوريًّا رَحم الإنسان وعَصمَ دمه مثل ما عصمه نبيُّ الإسلام" لافتا إلي أن علاقة الإنسان المسلم بغيره علاقة زمالة وصحبة وارتفاق، تقوم علي مبدأ السلام والتعارف.
كما شدد علي ضرورة جمع الكتب والمجلات التي تصدرها الجماعات الإرهابية المسلحة وتصنيفها ونقضها جملة وتفصيلاً.
وانتقد شيخ الأزهر الحملات التي تشنها وسائل الإعلام علي الخطاب الديني باعتباره المسئول الأول والأخير عن ظهور داعش وأخواتها، واصفًا تلك الحملات ب"السطحية".
وفيما يلي نص كلمة شيخ الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمّد النبي الأمي وعلى آله وصحبه..
سمو الشيخ/ عبد الله بن زايد آل نهيان - راعي المنتدى
السَّادَة العُلَمَاء والمُفَكِّرون والمُثَقَّفُون!
الحَفْلُ الكَريم! السَّلامُ عَليكُم وَرَحمَة الله وَبرَكَاتُه..
في بِداية كَلِمَتي هَذِه يَسُرني أنْ أتقدَّم بِخَالِص الشُّكر والتَّقدير لِدَولَة الإمَارات العَرَبيَّة المُتَّحِدة: حُكومةً راشِدة، وشَعبًا نبيلاً، لرعايتها الكَريمة لِهَذا المُنتَدى، وحرصها المشكور على انعقاده كُل عام، بحُضور دُعَاة السَّلام ومُحبِّي الإنسَانيَّة مِن كُلِّ أصقاع الدُّنيَا.
كَمَا يُسْعدني أنْ أزجي الشُّكر مَمزوجًا بالتَّقْدير والإِكبَار لأخي الشَّيخ الجَليل فضيلة الدكتور عبد الله بن بيه رئيسِ هذا المُنتَدى على هذا الجُهد الكَبير فيإعداد هذا المُنتَدى الَّذي نَرجو له النَّجَاح والتَّوفِيق وتحقِيق المقَاصِد والغَايات.
وإذا كانت الورقة التَّصويريَّة قد حَدَّدَت غاية هذا المُلتقى في إعادة الكَشف عن ثقافة السِّلم وبَيان محوريته في الإسلام: مِن خِلال قِراءة دَقيقة لنُصُوص الوحي وتُراث السَّلَف، فإنَّ هَذِه الغَاية لا شَكَّ هي مِن أنبَل الغايَات الَّتي يجب أنْ تَتوفَّر عليها أقلام أهل الاختِصاص، لإِزالة مَا رانَ على فِقه السَّلام من ظُلمَات بعضها فوق بعض، بسبب القراءة المغلوطة والتَّفسيرات الملتوية، التي أدَّت إلى أنْتتحوَّل الأسلحة في أيدي جماعة من المسلمين إلى صدور مجتمعاتهم وأهليهم بعيدًا عن صُدور أعدائهم ومقاتليهم.
نعم نَحْنُ الآن في أشدّ الحاجَة إلى مراجعة أمينة وقراءة نقدية لهذه المفاهيم في تراثنا الإسلامي، وبيانها للنَّاشِئة مِن التَّلاميذ ولِطُلَّاب الجَامِعَات في مُقرَّرات دِراسِيَّة جادَّة تسهم في تحصين شَباب العَرَب والمسلمين من الوقوع في براثن هذه الجماعات المُسَلَّحة، ولا مفرّ لمنتدانا هذا من دعوةالمُختَصِّين واجتماعهم للاتفاق على رؤية استراتيجية واضِحة المَعَالِم بَيِّنة الأهداف والغَايات لانتِشال شبابنا من حالة الاضطراب والتَّذَبذُب العَقديوالفكري في إدراك أُصُول الدِّين وأُمَّهَات قضايا العقيدة والأخلاق، إلى حالة الهدوء النَّفسي والاستقرار الإيماني والفَهمِ الصَّحِيح لدين أسهَم في صنع حضارة عالميَّة، وتأسيس أخوة بشريَّة، وزمالة عالميَّة لم يُنسج على مِنوالها حتَّى يَوم النَّاس هذا..هذه الحضارة الَّتي لَمْ تَكُن لتنتَشر من غَربالمعمورة إلى شرقها في فترة زمنية قصيرة حيَّرت عُلَمَاء التَّاريخ والحضَارة حَتَّى اليَوم - لَولا ارتكازها على مبدأ السَّلام بين النَّاس، ولَولا أنَّ نبيَّ هذه الحضارة قد بُعث رحمة للعالمين أجمعين، ولم يُبعَث رحمة للمسلمين فقط، أو لعَالَم الإنسانية فحَسب بل كما بُعث رحمة للإنسان بُعث أيضًا رحمة للحيوان والنَّبات والجَماد، »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ«{الأنبياء: 107}، والرَّحمَة يلزمها السَّلام، بل هي مع السَّلام وجهان لعُملة واحدة، ومَا أظُن أنَّ هُنَاك دينًا من الأديانِ ولا نِظامًا اجتماعيًّا أو دستوريًّا رَحم الإنسان وعَصمَ دمه مثل ما عصمه نبي الإسلام.. ومن المؤكَّد أن القرآن الكريم هو الكتاب الأوحد الذي جمع على قاتل الناس عقوبتين: القصاص في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.. ويكفي أنَّ القُرآن يسوي بين قتل نفس واحدة -بغير حق أو فسادٍ في الأرض- وقتل سَائِر النَّاس، وبين إحياء هذه النَّفس وإحياء جميع البشر.. «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»{المائدة: 32}. بل إنَّ الإسلام ليُحرِّم مجرد ترويع الإنسان وتخويفه، حتى لو كان التَّرويع على سَبيل المُداعبة والمزاح، يقول النبي «منْ أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعنُهُ حتَّى يَدَعهُ وإن كان أخاه لأبيهِ وأُمِّهِ»( )، وقال: «لَايَحِلُّلِمُسْلِمٍأَنْيُرَوِّعَمُسْلِمًا»، ولقد بلغت رحمته ورفقُه بالحيوان أنَّه رأى مرة جملاً تتساقط الدموع من عينيه، وتبدو عليه أمارات التَّعَب والإرهاق، فاستدعى صاحب الجمل وكان غُلامًا من الأنصار وقال له: «أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه»، ولا ينبغي أن نستنكر– أيُّهاالإخوة- هذا التَّواصل الحَي بين الأنبياء وبين الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد، أو نستبعد حدوثه انطلاقًا من أنَّ النَّاس لا يعرفون حيوانًا تحدَّث إلى إنسان وشكى إليه، فإنَّك لو ذهبت تتعرَّف على علاقة الإنسان بالكائنات في منظور الإسلام، فإنَّه سَيُدهشك أن تعلم أن هذا الكون بكل عوالمه– في منظور القُرآن الكَريم- ليس ميتًا أو جمادًا أصم محرومًا من الوعي والإدراك ومن حياة تناسبه، وصَريح القُرآن يدل دلالة واضحة على أنَّ هذا الكون بكل عناصره، أيًّا كانت هذه العناصر، يعبُد الله ويُسبِّحه، بل ويَسجُد له أيضًا، وإنْ كُنَّا نفقد الأهلية والشروط التي تمكننا من أنْ نرى سجوده أو نفقَه تَسبيحه، والآيات الواردة في هذا الشَّأن كثيرة جِدًا وتُفتتح بها سور عِدَّة، والعَقل لا يتصوَّر تسبيحًا ولا سجودًا من ميِّت لا إدراك له ولا حياة فيه، بل وصف الحياة للكائن المُسَبِّح السَّاجد يسبق بالضَّرورة وصفه بالسُّجود والتَّسبيح: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»{الإسراء: 44}، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ» {الحج: 18}، "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» {سبأ: 10}، ومعنى أَوِّبِي معه: «رجِّعِي معه» الذِّكر والتسبيح.
وبِهذا المَنطق نفهَم قول النَّبي فيما رواه الإمام مُسلم: «إِنِّيلَأَعْرِفُحَجَرًابِمَكَّةَكَانَيُسَلِّمُعَلَيَّقَبْلَأَنْأُبْعَثَإِنِّيلَأَعْرِفُهُالْآنَ»( )، وانطِلاقًا مِن هَذِه النُّصُوص القاطِعة يَتبيَّن لنا أنَّ علاقة الإنسان المسلم بغيره أيًّا كان هذا الغير إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا هي في فلسفة الإسلام علاقة زمالة وصُحبة وارتفاق، تقوم أوَّل ما تقوم على مبدأ السَّلام والتَّعارُف، وأنَّ الإسلام من هذا لمُنطلق تحديدًا لا يُبيح القَتل إلَّا في حالة واحدة وحيدة هي ردّ الاعتِداء، أو استيفاء حَقّ من حُقوقِ الله تعالى الثابتة بنص قطعي الدَّلالة والثُّبوت، ومن هُنَا ندرك لماذا حَرَّم الإسلام على المُسلِمين قتل الضُّعَفَاء في مُعسكر العَدو، ومنع من هَدم بنيانهم، وحرق أشجارهم وقتل نحلهم وحيواناتهم إلَّا لضرورة الأكل وعلى قدرها، لا تتجاوزه ولا تتعداه وذلك لأن كل أولئك لا يتصور منهم عُدوان ولا اعتداء، حتَّى قال الأديب المشهور (مصطفى الرافعي): "إنَّ لسيوف المُسْلِمين أخلَاقًا".
.. .. ..
أيُّهَا الحَفْلُ الكَريم:
إنَّ مُهِمَّة إحيَاء فِقه السَّلام في دينِ الإسلام: أصُولًا وتُراثًا أمر لَمْ يَعُد ترفًا أو خيارًا مُمكِنًا، بل هو أشبه بطوق النجاة الآن. وحسنًا فعل هذا المنتدى الكريم في تبنِّى مسؤولية جَمع هذا الفِقه وتجليته للخامل والنَّبِيه على السَّواء، وأرى أن يتبنَّى المُنتدَى بالتَّوازي عمَلًا آخر هو جمع الكُتب والمجَلَّات التَّي تصدرها الجماعات الإرهابية المُسَلَّحة، وبخاصَّة عبر وسائِل النشر الإلكترونيَّة، وتظهر بأكثر من لُغة غير اللُّغة العَرَبيَّة، والَّتي تحمل خَطرًا داهِمًا على الشَّباب، هذه الكتب والمقالات لابُدَّ من جمعها وتَصنِيفها ونقضها جُملةً وتفصيلًا، وثَمَّة عمل ثالث لابُدَّ مِنه لِمُحَاصَرة القواعِد العقديَّة الَّتي تنطلق منها جماعَات القَتل المُسَلَّحة، وبِخَاصَّة: قاعِدة التَّكفير، أو مَبدأ التَّكفير الَّذي أصَّلوه في أدبياتهم وضَلَّلوا به قِطَاعًا عَريضًا مِن الشَّباب المُسلِم في الشَّرقِ والغَرب، ومِن المُحزِن – أيُّها الحَفلُ الكَريم - أنْ تصدر في هَذِه الأيَّام الصعبة الَّتي نعيشها الآن كُتب ومَنشُورات بأقلام طائفة مِن المُنتَسبين للعِلم، يتناولون فيها مسألة التَّكفير، ويفرِّقون فيها بين التَّكفير الجَائِز وهو تكفير المُطلق وتكفير المُعيَن الجَائِز بشروط، ومثل هَذِه الأقوال لَا تُناسِب ظروف الأُمَّة الآن بِحال من الأحوال، ولَا تدعم قَضيَّة السَّلام الَّذي نسعى إليه جميعاً، ونَحْنُ لا نُنَاقِش هُنَا مَسألة تكفير المُطلق وتكفير المعيَن، وكيف أنَّ هذا التَّقسيم لَمْ يَرِد في كِتاب ولا سُنَّة، وإنَّما هو مِن أقوال المُتأخِّرين، الَّتي تخضع لإعمال النظر والأخذِ والرَّد. ولكنا نُنبِّه فقط إلى أنَّ بعض الفتَاوى أو الأحكَام الَّتي يَصدرها هذا الفَقيه أو ذَاك في العُصُور الخَوالي إنَّما صَدَرت لِمُواجَهة ظروف استِثنائيَّة لا يُمْكِن القِياس عليها الآن، وقَضيَّة التَّكفير أصدَق مِثال على دعوانا هَذِه، حيثُ نرى جماعات الإرهاب المُسَلَّح اليَوم تستند إلى أحكام يَنقلونها عن ابن تَيمية وابن كَثير رَحِمَهما الله، تَنُص على أنَّ النُطق بالشَّهادتين لا يَكفي للحُكْم بإسلام الشَّخص، بَل لابُدَّ من اقْتِران العَمَل بهما والخُضُوع الكَامِل لأحكَام الإسلام، والالتِزام "بالدِّفاع عن الجَماعة والدَّولَة الإسلاميَّة والشَّريعة"، فإذا خَرج المُسْلِم، أو المُسْلِمُون عن هَذِه الشُّروط فَهُم كُفَّار يَجب قِتالهم.. وجَليَّة القَول في هذا الفَهم المَغلُوط أنَّ ابن تيمية رَحِمَه الله إنَّما قال ذلك الكلام في القرن السَّابع والقرن الثَّامن الهجريين، وكان مشغولًا بمُواجهة المعَارك العَنِيفَة الدَّامية بين المسلمين وغارات التَّتار الذين أسقطوا بغداد واستولوا على الشَّام ووصَلوا إلى مصر التي هزمتهم في عين جالوت.. وكان التَّتار في ذلكم الوقت يُظهرون إسلامهم ويُبطنون كُفرهم، وكان حُكَّام الدُّويلات المُسْلِمة لا يجدون حرجًا من الاستعانة بهم في السَّيطرة على ما تبقَّى في أيديهم من البِلاد، وفي هذه الظروف تحديدًا قال ابن تيمية مَا قال من أنه لابُدَّ مِن اقِتران العَمَل بالشَّهادتين حتَّى يَمتاز المسلم عن غيره من المُتظَاهرين بالإسلام الذين يَكيدون للمسلمين ويقتلونهم.. والسُّؤال هو: كَيف يَصِحّ قياس مُجتمعاتنا الإسلاميَّة الآن على مجتمعات اختلط فيها المُسْلِم بالكافر والمُنافق، والعَرَب بالتَّتار والمَغُول؟! وهل يمكن أن يسوَّى في الحُكم الواحد بين المجتمعات المُسْلِمة في القَرن الواحد والعشرين وبينها في القرن السَّابع والثَّامن الهجريين!! وكيف أُلغيت كُل الفُروق والسِّياقات والمُلابسَاتِ الفقهيَّة والسِّياسيَّة والظروفِ القاسية الَّتي أثمرت هذا النَّوع من الفَتَاوى المؤقَّتة لِتطُل برأسها من جديد وتُبرِّر لجماعات التكفير إعلان الجِهاد على مجتمعات تُؤمن بالله ورسوله وتُقيم الصَّلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصُومُ رمضان وتحج إلى بيت الله الحَرام، ثُمَّ أين ما اتَّفق عليه فقهاء الأمة من أنَّ الفَتوى تَتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والظروف والأحوال!!.
إنَّ هَذِه الفَوضى الدَّمَويِّة- الَّتي تتَّخِذ من مَقُولة التَّكفير حُجَّةً وسَندًا- تحتاج إلى استِنفار علمائي يَتصَدَّى لهذه الفِتنة في كُل عَواصِم العَالَم العَرَبي، بَل في كُل مَدينة فيه، ولا يَتحقَّق ذَلِك إلَّا بالنزول إلى حقول التَّعليم وبخاصَّة: التَّعليم قَبل الجامعي.. ولَعَلَ اجتماعًا يلتقي فيه المسئولون عن التَّعليم في العالم العربي وأيضاً المسؤولون عن المدارس والمعَاهِد الدِّينية لِوضع مَنهج عِلمي مُشترك يستند إلى رأي الجمهور في النَّهي عن التَّكفير نهيًا قاطعاً لا لفَّ فيه ولا دوران، ويصاغ في مُقرَّر دراسي جاد يفند أغاليط التَّكفيريين تفنيدا فكريًّا وتربويًّا على مستوى الوطن العَرَبي- أقول لَعَلَ اجتماعًا كهذا أصبَح الآن ضَرورة من الضَّرورات القُصوى، ذلكم أن التركيز على التَّعليم أو الخِطاب التَّعليمي أهَم وأجدى من التَّركيز على خِطَاب الجُمهور، لأن القَاعِدة العَريضة من الجَماهير لاتزال مُحصَّنة ضِدَّ ثقافة التَّكفير، بِخلاف الجيل الجَديد الَّذي يعول في اكتساب المعرفة على وسائل الاتصال الإلكترونية، وهي مُخترقة اختراقًا كاملًا من قِبل هذه الجماعات، وتستهدف أوَّل ما تستهدف شباب الطلاب من المرحلة الثانويَّة والجامعيَّة.
واسمحوا لي أيُّها السَّادة الفُضلاء أن أختم كلمتي ببيان أنَّ الحملات التي تشنها وسائل الإعلام على الخطاب الدِّيني بحسبانه المسؤول الأوَّل والأخير عن ظهور "داعش" وأخواتها وبنيها وحفدتها هي حملات تتصف بالسطحية في تبسيط الأمور، وهي إذ تختزل أسباب ظهور هذه الجماعات في سبب واحد هو: الخطاب الدِّيني فإنها تتغافل أو تتعامى عن عوامِل أخرى دفينة دفعَت بهؤلاء الشباب إلى انتهاج العنف المُسَلَّح كحل أخير يائس لتغيير مجتمعاتهم! إنَّ الإخفاقات المتتالية وثقافة التهمييش التي عاشها هذا الجيل على أكثر من مستوى أسهمت إسهامًا واضحًا في شعور الكثيرين بالإحباط واليأس، وبخاصة الإخفاقات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والنَّفسيَّة، والخِطاب الدِّيني وحده لَيس هو الحَل، بل هو جزء من حل المشكلة، فهناك خطابات عِدَّة: سِياسيَّة واقتصاديَّة وتعليميَّة وثقافيَّة وإعلاميَّة وفنيَّة كانت كلها معاول هَدم وتحطيم لآمال النَّاس وأحلامهم وتحتاج الأن إلى إصلاح لا يقل شأنًا ولا خطرًا عن إصلاح الخِطاب الدِّيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.