المستشار الدكتور مدحت سعد الدين إن من يعمل بالقضاء ويؤدي عمله المفروض عليه ليس له مطلب في أن يكون موضع تقدير من أحد إلا من الله سبحانه وتعالي، وشخص في مثل هذا الوضع لابد ان تكون لديه صلابة وقوة غير عادية في الشخصية، تجعله لا يلقي بالا لسهام النقد التي توجه إليه ما دام يؤدي عمله باقتدار وعلي أكمل وجه، فالقاضي ليس موظفا ولا يجب معاملته علي انه كذلك، لأنه صاحب أنبل وأجل رسالة وهي رسالة ارساء العدل -الذي هو من صفات الخالق الكريم- بين الناس كافة، وحماية القاضي أثناء أداء عمله هو واجب الدولة الأول، ذلك ان القضاء سلطة تتصدر السلطات في الدول المتحضرة، وليس في أمر تقرير ان القضاء سلطة ميزة شخصية . ونظرا للأهمية البالغة لهذا الأمر، فإن استقلال القضاء كسلطة لا يكفي أن يتقرر كمبدأ وإنما يكون من الضروري كفالة هذا الاستقلال والمحافظة عليه بوضع ضوابط دستورية وقانونية فعالة في مواجهة أي عدوان يقع عليه، لأنه في النهاية يصبح عدوانا علي حقوق المواطن في التقاضي والمحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، ومن ثم حرصت جميع الدول المتحضرة علي النص عليه في دساتيرها وقوانينها المنظمة لدور كل سلطة من سلطات الدولة.ولكن ما قيمة تلك الضوابط إذا عم الكرب واشتد بلاء التجاوز الذي طال كل شيء، وتقاعست الدولة عن حماية القضاء وانفاذ حكم القانون حتي استشرت الفوضي في أوصال الدولة، ولقد سبق أن أشرت في مقالات سابقة إلي أن البعض من ذوي الأغراض خاصة ممن يعملون في المجال القانوني يروجون لأفكار خبيثة بالمناداة بتطهير القضاء حتي يمكنهم التخلص من بعض القضاة بغير الطريق القانوني، وهو ما يتنافر تنافرا مطلقا مع استقلال القضاء الذي أوجب خضوع القضاة لنظام خاص للتأديب في كل ما ينسب إليهم من خروج علي مقتضي الواجب الوظيفي، أو أي انحراف عنه ويتطلب توافر أدلة قاطعة علي ذلك، مع ان القضاء كان دائما طوال فترات الاستبداد هو الملجأ والحصن الأخير الذي يحتمي به الشعب من عسف السلطة واستبدادها، ولم يخذل الناس أبدا في القيام بهذا الدور أمام أعتي الدكتاتوريات التي حكمت البلاد في العصور السابقة مهما كانت حالكة السواد، وفي الأيام الأخيرة ازدادت نبرة التجاوزات وتعالت نبرة الجهر بالسوء من القول، حينما أصبحت العادة الدائمة وبغير اكتراث لبعض البرامج الفضائية اخضاع العمل القضائي أو الاحكام القضائية للمناقشة والتقييم من غير المتخصصين في وسائل الإعلام تحت شعار مخادع هو رقابة الرأي العام وحرية الإعلام في كشف الحقائق، وعلي نحو يمثل تدخلا سافرا في شئون العدالة ومخالفة أحكام القانون الذي يعاقب علي تلك الأفعال غير المسئولة والتي لا يساندها أي دليل من الواقع سوي الأقوال المغرضة والشائعات الكاذبة، مما دفع بعض الخارجين عن القانون إلي الالتفاف حول دار القضاء العالي رمز العدالة في مصر والجهر بعبارة تطهير القضاء، حتي ان البعض منهم اتخذ من الرصيف المجاور للمبني مرتكزا لإقامة الخيام وتعليق اللافتات التي تندد بالقضاء وتتضمن سبا وقذفا في حق الهيئة القضائية بأسرها، وهو الأمر المعاقب عليه قانونا، دون أن يحرك أحد من المسئولين أو المختصين ساكنا نحو انفاذ حكم القانون، ولقد وصل التجاوز مداه حينما وقف البعض من أعضاء السلطة التشريعية المنتخبة واصفا اجراءات محاكمة رموز النظام البائد بالهزلية، وذهب نفر آخر منهم إلي المطالبة باقالة النائب العام دونما انتباه أو اكتراث إلي المخالفة الصارخة للدستور ومبدأ الفصل بين السلطات وهو من المبادئ الأساسية للدولة القانونية، فكيف يقوم أي منهم بعمله علي النحو المرجو وسط هذه الحملة المغرضة والاشاعات الكاذبة؟ بدلا من ان يسعي هؤلاء الأعضاء إلي التأكيد علي استقلال السلطة القضائية والاسراع في مناقشة قانونها تمهيدا لاصداره.وانني اتساءل -أي مصلحة عامة يحققها التندر بالأحكام ذما أو قدحا أو اشادة بها في الفضائيات ووسائل الإعلام؟ وهل يحقق ذلك قدرا من الاطمئنان للقاضي الجالس للحكم بين الناس في ان يبني حكمه عن اقتناع يقيني بادانة أو براءة المتهم الماثل أمامه؟ وليعلم الجميع انه إذا سقطت هيبة القضاء وانعدمت ثقة الناس في قضائه نتيجة لتلك الحملة الغاشمة سقطت هيبة الدولة وتقوضت دعائم الحكم فعمت الفوضي وسادت شريعة الغاب ولجأ كل شخص إلي الحصول علي ما يعتقد أنه حقه بعيدا عن القانون، هو ما يعود بنا إلي عصر ما قبل الدولة، فهل يرضي العقلاء في هذه الأمة أن تصل الأمور إلي هذا الحد؟!!