الكتاب مثل صاحبه يمكن أن يصبح ضحية حرق أو نفي لما يحمله من أفكار وآراء ويمكن أن يتعرض للحرق قصدا أو جهلا أو خوفا لأنه يحمل بين طيات صفحاته تهديدا لحاكم ظالم أو تنديدا بفعل فاحش ضد شعب من الشعوب، ويمكن أيضا أن يحرق تدميرا لتاريخ أمة مثلما حدث مع كتاب وصف مصر .. لم يمض عام 2011 دون أن يترك بداخلنا بصماته علي أحدث جسام بدءا من ربيع الثورات التي غيرت نظرة العالم للمنطقة إلي انقلاب حياة الشعوب في معظم المناطق العربية، وصدور العديد من الكتب التي واكبت هذه الأحداث، لكن تظل الأحداث الحزينة تلك التي ترتبط بالشهداء من شباب الثورات، وجرائم احتراق الكتب سواء قصدا أو جهلا . كان كتاب " وصف مصر " من أكثر الكتب التي وقعت ضحية من بين مئات الكتب التي تعرضت للقذف العنيف من قبل المخربين للمجمع العلمي المصري أثناء الأحداث الأخيرة، بعد أن عاش زمنا طويلا يحمل تاريخا مصريا لم يعرفه الأغلبية إلا بعد تعرضه للحرق. وقد أنشئ هذا المجمع في القاهرة 20 أغسطس 1798 بقرار من نابليون بونابرت،وكان مقره في دار أحد بكوات المماليك في القاهرة ثم نقل إلي الإسكندرية عام 1859 وأطلق عليه اسم المجمع العلمي المصري ثم عاد للقاهرة عام 1880 وكانت أهداف المجمع العمل علي التقدم العلمي، ونشر العلم والمعرفة . وضم المجمع أربع شعب هي : الرياضيات، والفيزياء، والاقتصاد السياسي، والأدب والفنون الجميلة، وفي عام 1918 أجريت تعديلات علي الشعب لتحوي الآداب و الفنون الجميلة وعلم الآثار، والعلوم الفلسفية والسياسة، والرياضيات، والفيزياء، والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي ويحتوي المجمع علي مكتبة تضم 200 ألف كتاب، ومجلة سنوية. وكان الباعث علي إقامته سببين؛ السبب الظاهر للعيان العمل علي تقدم العلوم في مصر، وبحث ودراسة الأحداث التاريخية ومرافقها الصناعية، وعواملها الطبيعية، فضلا عن إبداء الرأي حول استشارات قادة الحملة الفرنسية، ولكن الهدف الحقيقي هو دراسة تفصيلية لمصر وبحث كيفية استغلالها لصالح المحتل الفرنسي، ونتج عن هذه الدراسة كتاب "وصف مصر". بعد الرحيل بعد رحيل الفرنسيين من مصر عام 1801 توقف نشاط المعهد لانتهاء سبب إنشائه وتبقي جانب من مقر المعهد القديم، وهو منزل إبراهيم كتخدا الملقب "بالسناري"، نسبة إلي مدينة سنار التي قدم منها قبل أن ينتقل إلي القاهرة، ليصبح واحدًا من أعيانها بفضل قربه من الأمير مراد بك، وفرغ من بناء المنزل قبل وصول الفرنسيين بسنوات قليلة، وقد مر المنزل حين تم ترميمه بعدة مراحل وقد سجلت هذه البناية قصة عودة الحياة إلي المجمع العلمي مرة أخري، حيث ظل منذ خروج الفرنسيين مهملا، إلي أن نجح دكتور والن قنصل بريطانيا في مصر، في تأسيس الجمعية المصرية العلمية لتقوم بدوره، وأنشأ الدكتور هنري إليوت وهو إنجليزي، وبريس دافين العالم الفرنسي في عام 1842 الجمعية الأدبية المصرية لتقوم بنفس الهدف. وفي 6 مايو 1856 أعلن محمد سعيد باشا والي مصر، إعادة تأسيس المجمع مرة أخري بالإسكندرية وأدمجت الجمعيتان السابقتان فيه، وضم المجمع العديد من أعضاء المجمع القديم، أبرزهم جومار الذي كان عضوا في لجنة الفنون وماربيت وكوليج وغيرهم، وبرز عدد كبير آخر من أعضاء المجمع علي مدي تاريخه في مختلف المجالات، ومنهم جورج شواينفورت الرحالة المشهور المتخصص في العلوم الطبيعية، ومحمود الفلكي الإخصائي في علم الفلك، و جاستون ماسبيرو المتخصص في التاريخ الفرعوني، وعلي مشرفة عالم الرياضيات، والدكتور علي باشا إبراهيم وأحمد زكي باشا. ثم انتقل المجمع عام 1880 إلي القاهرة، وبدأت أنشطته تنتظم، فهو يعقد جلسة شهرية بدءًا من نوفمبر إلي مايو، ويلقي فيه علماء مصريون وأجانب، محاضرات من شأنها توطيد العلوم ونشر ألويتها، وأدخل تعديل علي أقسام المجمع، فأصبحت كالآتي: قسم الآداب والفنون الجملية، وعلم الآثار، وقسم العلوم الفلسفية والسياسية، وقسم العلوم الطبيعية والرياضيات، وقسم الطب والزراعة والتاريخ الطبيعي. وينتظم في هذه الأقسام مائة وخمسون عضوا، منهم خمسون عضوا عاملا وخمسون مراسلا بعضهم من مصر وخمسون منتسبا في الخارج.ومن أبرز أعضاء المجمع، الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة، والأمير خالد الفيصل، وأصبح عدد أعضائه من الأوروبيين محدودًا وخاصة الفرنسيين ومنهم الدكتور فيليب لاوير، وهو خبير فرنسي في الآثار يعيش في مصر منذ أربعين عامًا، ودكتور جورج سكانلون وهو أستاذ أمريكي متخصص في العمارة الإسلامية، والدكتور وارنركايزر وهو ألماني ويتبادل المجمع مجلته السنوية ومطبوعاته مع مائة وأربعين مؤسسة علمية دولية . وصف مصر .. تاريخ بالصور حكاية كتاب " وصف مصر" بعد خمسين عاما من دخول الحملة الفرنسية إلي مصر بعد أن أسس نابليون "المجمع العلمي "معتمدا علي 150 عالما فرنسيا وأكثر من ألفي متخصص من كبار الفنانين والرسامين وعلماء آثار وأطباء وكيميائيين والتقنيين الذين رافقوه خلال الحملة في الفترة ما بين "1798-1801" وأسهموا في عمل أول مجموعة من المجلدات الدقيقة التي تضم 11 مجلدا من الصور واللوحات و9 مجلدات من النصوص من بينها مجلد خاص بالأطالس والخرائط، وقد قاموا أيضا بتسجيل تاريخ كل الشوارع والميادين والقري وحياة الناس والأنشطة الاجتماعية والثقافية وكل ما يتعلق بحياة المصريين وكل ما له صلة بالحضارة المصرية القديمة منذ أيام الفراعنة ليقدموا سجلا شاملا إلي العالم والي فرنسا عبارة عن 20 مجلدا وضعت جميعا تحت عنوان كتاب "وصف مصر" الذي يعتبر اكبر واشمل موسوعة للأراضي والآثار المصرية مخطوطة باليد شاملة علي صور ورسومات بعضها بحجمها الطبيعي حتي أنهم أطلقوا عليها " لوحات الفيل " لكبر حجمها وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة بين عامي "1809- 1929" وقد دمرت النسخة الأصلية لهذا الكتاب أثناء الأحداث التي وقعت مؤخرا مابين قصر العيني ومجلس الوزراء يوم السبت 17من ديسمبر عام 2011 اثر احتراق المجمع العلمي الذي راح ضحيته حوالي مائتي كتاب من أهم الكتب التي تحتوي علي تاريخ مصر .. ثم ظهرت عدة أصوات من جوانب عديدة تؤكد أن هناك ثلاث نسخ أصلية أخري غير التي احترقت وجاءت أصوات تؤكد أن النسخة الاصلية الموقع عليها نابليون بخط يده ليست موجودة أصلا في مصر بل إنها موجودة في فرنسا وما يوجد في مصر مجرد نسخ ! ويؤكد وزير الثقافة الدكتور شاكر عبد الحميد أنه يوجد في مصر ثلاث نسخ أخري أصلية لهذا الكتاب العظيم، واحدة في دار الكتب والوثائق، وأخري في الجمعية الجغرافية، والثالثة نسخة غير مكتملة موجودة في جامعة أسيوط، مشيرا إلي أنه يوجد أيضا الترجمة الأصلية لهذا الكتاب. وأشار وزير الثقافة إلي أنه تابع بنفسه الأعمال الجارية حاليا لإعادة ترميم ما تم إنقاذه من محتويات المجمع العلمي، حيث يعكف علي ترميمها مجموعة متميزة من المرممين في دار الكتب، لافتا إلي أن مصر فقدت خلال حريق المجمع العلمي مجموعة كبيرة من الوثائق والكتب التاريخية النادرة، فضلا عن المبني الأثري الذي احترق ويرجع لأكثر من مائتي عام . ومن أحدث الأصوات المؤكدة علي وجود نسخ أصلية من كتاب وصف مصر ماريا بريان أمينة مكتبة "شيكاغو هاوس" بالأقصر التابعة لجامعة شيكاغو الأمريكية وتقول : هي نسخة قديمة جدا طبق الأصل يمكن لأبناء الأقصر من الأثريين الإطلاع عليها، حيث تتم معاملتها بشكل خاص نظرا لقدمها وقيمتها التاريخية. وأكدت بريان أن كتاب "وصف مصر" عبارة عن (20 مجلدًا)، عنوانه الأصلي هو "وصف مصر أو مجموعة الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية"، والتي تمت كتابتها وتجميعها إبان الحملة الفرنسية علي مصر حيث اصطحب نابليون بونابرت معه فريقًا من العلماء من جميع التخصصات ليسجلوا ملاحظاتهم. وبعد عودة الفريق إلي فرنسا قام وزير الداخلية الفرنسية (آنذاك جان انطوان شبتال ) وبالتحديد في 18 فبراير عام 1802 بتشكيل لجنة من أعضاء فريق العلماء والملاحظين فتشكلت لجنة من ثمانية أعضاء قامت بجمع ونشر كل المواد العلمية الخاصة بالحملة والتي كانت عبارة عن 10 مجلدات للوحات، منها لوحة بالألوان، وأطلس خرائط، وأخيرًا، 9 مجلدات للدراسات. وتسجل تلك المجلدات، سواء لجودة طباعتها، أو لجمال رسومها)، كأحد الأعمال التاريخية، في الفترة من(1809) حتي " 1802" مقتطفات من كتاب وصف مصر إن كتاب "وصف مصر" يتضمن دراسات عن جميع أوجه الحياة في مصر أجراها نحو 160 مهندسا وباحثا وكيميائيا ومستشرقا فرنسيا في 800 صفحة ويحوي بين دفتيه 3 آلاف صورة. من بين سطور الكتاب ما جاء عن افتتاح قناة السويس : أن حفل افتتاح قناة السويس فاق الحد ذلك أنه لما قرب الانتهاء من حفر قناة السويس والذي تجاوز العشر سنين من 25 أبريل 1859 تاريخ دق أول معول في أرض القناة وحتي 17 نوفمبر 1869 تاريخ الافتتاح أوعز ديليسبس للخديو إسماعيل بدعوة ملوك أوروبا وأمرائها ورؤساء الحكومات فيها ورجال السياسة والعلم والأدب والفن لمشاهدة هذا المهرجان، ومن مشاهير من دعاهم الخديو إسماعيل لتلك الحفلات الرحالة الإنجليزي صمويل بيكر الذي اكتشف بحيرة ألبرت والذي اصطحب معه إلي مصر الأمير إدوارد ولي عهد إنجلترا كما حضر تلك الحفلات المصور والأديب الفرنسي المشهور أميل زولا والأمير هنري ولي عهد هولندا والأميرة قرينته والإمبراطور فرنسوا جوزيف والأمير فردريك ويلهام ولي عهد روسيا والإمبراطورة أوجيني. ومنذ صباح 16 نوفمبر 1869 (بداية الاحتفالات ) اصطفت قوات كبيرة من الجنود المصريين بين الميناء والثلاث منصات التي أقيمت علي الرصيف الشمالي للمدينة (في مكان بيت الراهبات بجوار المطافئ الآن ) كما نصبت المدفعية المصرية بين حاجز الأمواج الغربي وساحة الاحتفالات وانتشرت الزينات وارتفعت الأعلام في جميع أرجاء مدينة بورسعيد وطليت المساكن ودور الحكومة. شخصية مصر .. جمال حمدان قد يقع البعض في الخلط بين شخصية مصر للعالم الكبير الدكتور جمال حمدان وكتاب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية .. حقيقي إن الكتابين يحملان تاريخا عظيما لمصر لكن الأهداف لكل منهما مختلفة وكان هدف الأول تنموي حضاري يسعي إلي معرفة إمكانات الشخصية المصرية ومقوماتها الحضارية بدافع وطني .. أما الكتاب الثاني فكان بهدف دليل استرشادي لمعرفة طبيعة الدولة التي جاء لغزوها المحتل الفرنسي . كان جمال حمدان صاحب أسلوب متميز داخل حركة الثقافة العربية المعاصرة في الفكر الإستراتيجي، يقوم علي منهج شامل معلوماتي وتجريبي وتاريخي من ناحية، وعلي مدي مكتشفات علوم: الجغرافيا والتاريخ والسكان والاقتصاد والسياسة والبيئة والتخطيط والاجتماع السكاني والثقافي بشكل خاص من ناحية أخري. ولا يري جمال حمدان في علم الجغرافيا ذلك العلم الوضعي الذي يقف علي حدود الموقع والتضاريس، وإنما هو علم يمزج بين تلك العلوم المختلفة؛ فالجغرافيا هي "تلك التي إذا عرفتها عرفت كل شيء عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك.. جغرافية الحياة التي إن بدأت من أعلي آفاق الفكر الجغرافي في التاريخ والسياسة فإنها لا تستنكف عن أن تنفذ أو تنزل إلي أدق دقائق حياة الناس العادية في الإقليم". وإذا كانت الجغرافيا -كما يقول في تقديمه لكتاب "شخصية مصر" في الاتجاه السائد بين المدارس المعاصرة- هي علم "التباين الأرضي"، أي التعرف علي الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض علي مختلف المستويات؛ فمن الطبيعي أن تكون قمة الجغرافيا هي التعرف علي "شخصيات الأقاليم"، والشخصية الإقليمية شيء أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم، إنها تتساءل أساسا عما يعطي منطقة تفرّدها وتميزها بين سائر المناطق، كما تريد أن تنفذ إلي روح المكان لتستشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة.. ولئن بدا أن هذا يجعل للجغرافيا نهجا فلسفيا متنافرا يتأرجح بين علم وفن وفلسفة؛ فيمكن أن نضيف للتوضيح: علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها.. والواقع أن هذا المنهج المثلث يعني ببساطة أنه ينقلنا بالجغرافيا من مرحلة المعرفة إلي مرحلة التفكير، من جغرافية الحقائق المرصوصة إلي جغرافية الأفكار الرفيعة. وكانت رؤية جمال حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة، فلا ينحاز إلي طرف علي حساب الآخر، ويظهر ذلك واضحا في كتابه المشار إليه آنفا، والذي تبرز فيه نظرته الجغرافية المتوازنة للعلاقة بين الإنسان المصري والطبيعة بصفة عامة والنيل بصفة خاصة، وكيف أفضت هذه العلاقة إلي صياغة الحضارة المصرية علي الوجهين: المادي والروحي.. كتاب شخصية مصر يتكون من أربعة أجزاء "تحت عنوان شخصية مصر ودراسة في عبقرية المكان".