أعترف أنني اكتشفت هذا المكان في الأقصر عبر باريس، وتحديداً من متحف اللوفر. المتاحف في فرنسا تموج بالحياة والأفكار الجديدة.. لا يقتصر الأمر علي المعروضات الثابتة المدونة في الكتب والمعروفة عالمياً، ولكن ثمة أنشطة تتفنن في جذب الجمهور.. هكذا فوجئت أول يوم أنزل فيه إلي باريس بهذا المعرض الذي لم أقرأ عنه قبل سفري. معرض مخصص لفناني الفرعون، وأعترف أنني عندما قرأت الإعلان أمام مداخل متحف اللوفر لم أستوعب مضمونه جيداً وإن خمنت، ذلك أن العنوان الغربي كان يشير الي دير المدينة، ودير المدينة منطقة قريبة من وادي الملوك كان يقيم فيها كل من له صلة بنحت ونقش ورسم وتلوين المقابر الملكية، بدءاً من المهندسين إلي العمال. من عادتي إذا وصلت إلي باريس أن أبدأ بزيارة اللوفر، أعرف أهدافي المحددة التي أتجه إليها أولاً عبر ثلاثة وعشرين عاماً نشأت بيني وبين عدد من القطع الفنية صلة لا أبالغ إذا قلت إنها مثل تلك التي تربطني بالبشر والحديث عنها يطول ربما أفضت في مقال آخر. كان اليوم سبت أول يوم في هذا المعرض الخاص بأولئك المجهولين الذين أبدعوا ومضوا في صمت، لا يذكر التاريخ أسماءهم، ولم يمجدهم أحد، ولأن الوقت محدود، قررت أن أمضي مباشرة إلي هذا المعرض الاستثنائي، أعرف المكان المخصص لهذه الأنشطة، في الطابق السفلي وفي العام الماضي أمضيت وقتاً طويلاً في معرض خصص للتصور الإسلامي عن العالم في القرون الوسطي وما فيه من عجائبية، في مثل هذه المعارض تخرج كنوز اللوفر، تلك المعروضة باستمرار أو المحفوظة في المخازن ولا يطلع عليها إلا الدارسون والباحثون، ويتم استعارة قطع من متاحف العالم تتصل بالموضوع نفسه كان أهم متحف تمت استعارة بعض المقتنيات منه متحف تورينو للمصريات، وقد زرته منذ عامين وذهلت لثراء المجموعة التي تعد الثانية بعد المتحف المصري في القاهرة أي أنها أكثر ثراء من مجموعة اللوفر. ولهذا سبب تاريخي إذا أن الايطالي بلزوني الذي جاء إلي مصر في بداية القرن التاسع عشر وحظي بثقة الوالي محمد علي باشا، وانطلق ينهب أثمن ما تحويه أرض مصر من كنوز فنية ليبيعها لملوك وأثرياء أوروبا، كان بلزوني من أبرز أولئك الذين نهبوا الآثار المصرية، وأكثرها قيمة وانتهت معظم مجموعاته إلي إيطاليا. بعد أن قررت التوجه مباشرة إلي المعرض كان يجب أن أقف حوالي ساعة في طابور طويل، إن دخولي اللوفر نفسه لا يشكل عقبة إذا اتجه مباشرة إلي باب جانبي مخصص للصحفيين يكفي إبراز البطاقة الصحفية للعبور فوراً وبدون رسوم الي داخل المتحف الشهير. يتكون المتحف من ثلاث سرايات لكل منها مدخل لابد من عبوره بعد دفع رسوم خاصة أما مدخل المعارض الخاصة فمستقل، لم يكن مسموحاً إلا بوجود عدد محدد داخل الحيز المخصص منعاً للزحام وحتي يمكن للجمهور رؤية متأنية هكذا انتظرت أكثر من ساعة كنت مرهقاً بعد عبور المحيط من الولاياتالمتحدة الي القارة الأوروبية امس لكن الأمر يستحق.
في مدخل المعرض نصبت خيمة تمت إلي ثلاثينيات القرن الماضي، كان يقيم فيها المنقبون عن الآثار خيمة من قماش أبيض، داخلها سريران من جريد النخل، ويعرف هذا النوع بالعنقريب، وينتشر في الجنوب، خاصة المناطق التي تقع قرب الجبل، حيث تنتشر العقارب السامة، وعبر تجربة طويلة ثبت أنها لا تستطيع تسلق جريد النخل، لهذا يحمي هذا السرير من يتمدد فوقه من هجوم العقارب السامة الخطيرة، في الخيمة مصباح غازي كان يستخدمه الباحثون داخل المقابر وفي الليل، ومنضدة، وحقيبة. علي الجدران علقت ثلاث لوحات فوتوغرافية ضخمة، الأولي التقطت عام ثلاثين من القرن الماضي لدير المدينة، تبدو معظم مقابر ومنازل الفنانين تحت الرمال، المكشوف منها قليل، الصورة الثانية إلتقطت في الخمسينيات، تبدو التفاصيل ضعف الموجودة في الأولي الصورة الثالثة من تسعينيات القرن الماضي، إنها تمثل الوضع الحالي تقريباً الذي تبدو عليه مساكن أولئك الفنانين القدامي الذين أبدعوا هذه الحضارة، بعد المدخل اتبع السهم الذي يشير الي الطريق الذي يجب أن يسلكه الزائر. توقفت أمام نماذج البيوت التي كان يعيش داخلها العمال والفنانين، عدة نماذج لها، لا تختلف كثيراً عن البيوت التي ولدنا فيها بصعيد مصر، والتي كانت تبني من الطوب اللبن المصنوع من طمي النيل، وكانت تلك البيوت فسيحة تتكون من فناء مكشوف، وغرف للنوم، وغرفة تستخدم كمخزن للغلال وصوامع للقمح والذرة، ومصاطب النوم. لم يتغير شكل البيت المصري القديم لعدة آلاف من السنين إلا في السنوات الأخيرة بالتحديد خلال العقدين الأخيرين، عندما بدأ تحول خطير في اتجاهات البناء، إذ بدأ استخدام الخرسانة في الريف المصري، وظهرت البنايات متعددة الطوابق والتي لا تناسب المناخ الحار، كان المصري القديم لا يهتم كثيراً بالبيت الذي يعيش فيه أيامه في الحياة الدنيوية قدر اهتمامه بمنزل الابدية، حيث يستقر جثمانه المحنط الي الابد، غير ان البيت الدنيوي كان يشيد وفقاً لاتجاه الريح ومصادر النسمات المنعشة، أما البيوت الخرسانية الحالية فتمتص الحرارة لتعكسها ليلاً إلي الداخل.
بعد نماذج البيوت التي عاش فيها أولئك المبدعون القدامي، نري نماذج من طعامهم، كان مثيراً لي رؤية أربعة أرغفة من الخبز الشمسي، أربعة أرغفة محفوظة منذ أربعة آلاف عام، تحجرت تقريباً لكن ما تزال تحتفظ بالشكل والحجم المستمر حتي الآن تقريباً، والخبز الشمسي يعجن وتوضع أقراص العجين فوق طاولات من الطين في الشمس، ومن الحرارة الكونية يخمر وينتفش ثم يخبز في الأفران، كان عجينه يتم صباحاً واكتمال خميرته يتم ظهراً، وخروجه من الفرن عند العصر أي مع قرب عودة الرجال من السوق أو الحقل، مازال الخبز يعد بنفس الطريقة القديمة في صعيد مصر، لكنه يختفي شيئاً فشيئاً مع انتشار الخبز في الأسواق، وسهولة الشراء بدلاً من الخبيز، وكان من العادات المثيرة للخجل في الصعيد أن تقوم بعض الأسر بشراء الخبز من مخبز عام وكان ذلك دليلاً علي الفقر وقلة الأصل، وإذا أراد البعض امتداح أفراد أسرة ما يقولون عنهم »دا زيتهم في دقيقهم« أي لديهم الاكتفاء الذاتي بما يجعلهم أغنياء عن الحاجة إلي الآخرين، رأيت بعض الحبوب المحنطة المحفوظة وثمار التين والبلح والدوم وشجر الدوم في سبيله إلي الانقراض من الصعيد، إذ لاحظت ندرته خلال زياراتي المتكررة في السنوات الأخيرة، وربما يرجع ذلك إلي توقف وصول الأشجار مع الفيضان كما كان الأمر قبل السد العالي، كذلك عدم اقبال الصعايدة علي زراعته، ان كلمة »دوم« من »الدوام« يقال ان من يزرع هذه الشجرة لا يأكل من ثمارها، إذ انها تبدأ الطرح بعد مائة عام من غرسها، ربما لهذا ارتبطت بالأبدية عند المصريين القدماء، كانوا يضعون ثمارها مع الراحلين، توقفت طويلاً أمام قطع الأوسترايكا، أي قطع الخزف غير المنتظمة المتخلفة عن نحت أواني الخزف الكبيرة. في الأوسترايكا يكمن التاريخ الحقيقي، والأكثر انسانية من مناظر الآلهة والملوك علي جدران المقابر الملكية أو المعابد، بعض القطع مدون عليها حسابات تتعلق بالفنانين والعمال، والبعض عليها نصوص تمثل يوميات عادية، وقطع اخري عليها رسوم متحررة من تقاليد الفن الخاص بالملوك، رأيت علي إحداها أقدم رسم ساخر في العالم، أوزة تلعب الشطرنج مع ذئب. كانت الأوسترايكا خامة الفقراء الرخيصة للرسم والكتابة، بعضها من الحجر الجيري وبعضها الآخر من الفخار المحروق، يرجع استخدامها إلي الدولة القديمة واستمر حتي العصر الإسلامي. في دير المدينة تم العثور علي آلاف القطع موزعة الآن علي متاحف العالم، علي بعضها لوحات مشهورة مثل الراقصات الثلاث المستقرة الآن في متحف تورينو، في هذا المعرض الخاص بفناني الفرعون، رأيت خطابات وقوائم عمال وحكما وأشعارا وأيضاً وصية أم توصي بما تركته لولدين من أبنائها وحرمان الثالث لأنه كان يعاملها معاملة سيئة، وأقدم وثيقة لاضراب العمال في التاريخ كانوا يشتغلون في حفر مقبرة أحد النبلاء، لكن تأخر صرف الأجور ورواتب الطعام فتوقفوا عن العمل، علي ورقة بردي رأيت تحقيقاً مع بعض لصوص المقابر، ورأيت تماثيل متقنة لكن لم يؤثر فيَّ شيء مثل تلك القطع الصغيرة المهملة، والتي دون عليها أولئك الأسلاف المجهولون أشعاراً وسطوراً تعبر عن أحوالهم بصدق، بل ان بعضهم رسم رسوماً تسخر من ملوكهم. كانوا في النهار يعملون باتقان وجدية في مقابر ملوكهم وأمرائهم، وفي الليل يأوون إلي بيوتهم في دير المدينة، بعد تناول الطعام وشرب الجعة، الخمر المصرية التي كانت تصنع من الشعير، وتشبه البوظة الآن، عندئذ يطلقون العنان لمشاعرهم الخاصة، ولخيالهم يدونون ما يعن لهم كتابة ورسماً يسخرون حتي من ملوكهم المقدسين، وهذا ما يحيرني حتي الآن، هذا التناقض بين ما هو ظاهر علي جدران المقابر وما تم تدوينه علي تلك القطع الصغيرة من الفخار أو الحجر الجيري والمعروفة باسم الأوسترايكا، لقد عدت بعد استعراض لفرش الألوان، وأدوات الرسم واللوحات المنقولة من دير المدينة، إلي تلك القطع الصغيرة من الخزف وكدت أصغي الي انفاس أولئك المجهولين الذين أودعوا ذواتهم الحقيقية علي تلك القطع، والتي تحمل آثارهم الانسانية، وأيضاً.. التاريخ الحقيقي.