»كانت أمنيتي أن أصبح ضابطا للشرطة، وقد حققها الله لي بعد رحلة طويلة من الكفاح والجهد والمثابرة. لن أنسي يوم تخرجي وأنا اجتاز الشارع في طريقي إلي منزلي.. أحمل علي كتفي نجوم الشرف والرجولة.. كانت كل العيون ترصدني وسط دعوات الجيران التي تعالت تبارك لي.. للبيه الجديد ابن شارعهم. مرت الأيام سريعة وسط مشاعر بالزهو والفخار أجدها دائما في عيون الناس.. نظرات تقدير واحترام كانت هي القوة الحقيقية التي نملكها والتي يخشاها ويتحاشاها مدمنو البلطجة والإجرام . داخل قسم الشرطة الذي أعمل به وجدت عالما جديدا وخليطا غريبا من البشر، البعض جاء يحمل الشكوي ويطلب حقا مسلوبا، والبعض الآخر جاء متهما تطلبه العدالة للتحقيق. وبين هؤلاء يندس دائما بعض »فتوات الحتة« والحي الذي يوجد به قسم الشرطة.. يبدو انهم بقايا عصر الفتوات وثلاثية نجيب محفوظ بأجسامهم الفارعة وعلامات لم يمحها الزمن علي وجوههم من جراء المعارك التي خاضوها والتي تعد كثرتها دليلا علي شجاعتهم وقوة بأسهم.. تتعالي الأصوات في بعض الأحيان داخل القسم وتحمل جزءا من تراث وقاموس الالفاظ النابية التي يتبادلها معتادو الإجرام والتي سرعان ما تختفي تماما عندما أمر في »طرقات« القسم أو يمر أحد الضباط زملائي أو أمناء الشرطة. كانت لنا هيبة ومكانة تمثل في حد ذاتها أكبر حافز وطاقة تعيننا علي العمل الشاق كضباط للشرطة.. هيبة في الشارع والحي وداخل القسم.. هيبة في نفوس الناس تمثل هيبة دولة وشعب وحضارة. مرت الأيام سريعة وجاءت أحداث الخامس والعشرين من يناير بكل حلوها ومرها.. جاءت لتشكل نقطة فاصلة في حياتي.. فلأول مرة يراودني شعور بأنني اخترت الطريق الخطأ! لا أخفي سرا إن قلت ان هناك بعض السلوكيات والممارسات الخاطئة التي يمارسها قلة من الزملاء مع بعض المواطنين. لكنني بنفس الصدق أقول ان سلوك المواطن هو الذي كان يحدد طبيعة التعامل معه. ما الذي تتوقعه عندما تجد نفسك أمام بلطجي يتنفس الإجرام كالهواء؟! وفي أي لحظة قد تجده يخرج مطواة من بين طيات ملابسه رغم الاتقان في تفتيشه لكي يضرب بها نفسه أو تجده يسرع بضرب رأسه في الحائط ليسجل بالوثائق انه تم الاعتداء عليه؟!. وأيضا ما الذي تتوقعه عندما يدخل مواطن تبدو من ملامحه دماثة الخلق والاحترام.. بالطبع ساعتها سيجد معاملة قد تختلف تماما.. وأؤكد مرة أخري ان كلامي لا يعني عدم وجود استثناءات.. ولا يعني ابدا ان ضباط الشرطة ملائكة لا يخطئون. مرت أحداث الخامس والعشرين من يناير والتي تنفسنا جميعا الصعداء في انها ستكون بداية جديدة تعلي حقوقنا كمصريين وتعيد لنا آدميتنا وقبل ان تبدو الدهشة علي البعض من كلامي والاعتقاد بأن ضباط الشرطة كانوا يعيشون في أبراج عالية أؤكد عدم صدق ذلك. وبالطبع كما قلت مع وجود استثناءات. دعوني -وقبل ان يتفرع مني الحديث - انتقل إلي ما نعيشه اليوم كضباط للشرطة من انكسار وذل وهوان وإذا كنتم ككتاب وصحفيين تقولون ان الخبر ليس أن يعض كلب إنسانا وإنما العكس، فدعوني أقول لكم إن الخبر بالنسبة لنا الآن هو ليس ان يضرب ضابط مجرما أو بلطجيا وإنما العكس. العكس الذي يشكل لحظة فارقة تدعونا جميعا لكي نحكم التفكير ونبتعد عن الظلم وقاموس التشفي والأحقاد الذي أصبح عملة متداولة الآن في كل مكان بمصر التي انهكناها ظلما وعدوانا.. وسنظل نحمل اثم الاساءة اليها. دعونا ندخل إلي الحقيقة المرة التي نلتف جميعا حولها دون أي محاولة جادة للبحث عن أسبابها وكيفية تداركها. حقيقة سؤال تخجل الحكومة من الاجابة عليه لانها تحاول التجمل.. وتمارس سياسة خاطئة للاحتواء.. وتعتقد -واهمة- ان العناية الإلهية سوف تقف معها لترشدها إلي جادة الصواب! ما الذي تنتظرونه عندما يتجرأ احد السائقين ليصفع عميدا للشرطة أمام القسم الذي يعمل به؟! ما الذي تنتظرونه عندما يتحول أمناء الشرطة وضباطها وكبار قياداتها إلي خيال مآتة في الشوارع ومواقف الميكروباصات.. وكان ظهور أي واحد منهم في السابق مدعاة للانضباط وعدم سماع »تلت التلاتة كام«؟! كانوا مرآة لنظام وهيبة دولة وقانون وشرعية تستباح اليوم بحجج واهية وسياسات مستوردة تود احراق مصر عن آخرها. ما الذي تنتظرونه عندما يأمر وزير الداخلية بإحالة مأمور للتحقيق معه ووقفه عن العمل لأنه اساء لأحد المواطنين دون ان يقال لنا ماذا فعل بالضبط؟! ما الذي تنتظرونه وشعور بالانكسار يكاد يملأ كل نفوس وقلوب الزملاء من الضباط ومعاونيهم؟! ما الذي تنتظرونه عندما يدخل مواطن لأحد أقسام الشرطة وهو يسبق خطواته بسيل من الشتائم والسباب و»أعلي ما في خيلك اركبه يا مأمور يا جبان«!! ما الذي تنتظرونه عندما يبصق احد سائقي الميكروباص علي ضابط شرطة لأنه طلب منه وباستحياء ألا يقف في التقاطع لانه تسبب في توقف السير بالشارع كله؟! تمنيت أن تكونوا معي لتسمعوا مأمور القسم وهو يطلب منا كل صباح أن يمر اليوم بسلام ويقدم لنا النصيحة قائلاً: »مشي حالك ومش عايزين مشاكل مع حد. ومفيش حد هيحمينا إلا ربنا«.. ما الذي تنتظرونه عندما يداعبنا المأمور بكل السخرية والأسي ويقول: »قبل الثورة كان ممكن نستأذن رئيس الجمهورية اننا نضرب نار علي المجرمين لكن دلوقتي مفيش ريس.. يبقي مفيش ضرب نار«. ما الذي تنتظرونه عندما تأتينا كل ساعة اخبار اعتداءات علي أقسام الشرطة ورجالها الذين فقدوا أمنهم ونطالبهم بأن يحققوه للآخرين؟! ما الذي تنتظرونه عندما تبادر أمي بتقبيلي كل يوم قبل ذهابي لعملي وهي تقرأ قصار السور وعشرات الأدعية تطلب من الله ان يحفظني.. وتلقنني كلمات كرهتها.. من قبيل »مالكش دعوة يا بني.. البلد خربت ومش انت اللي هتصلح الكون«. ما الذي تنتظرونه..!! ارجوكم.. صدقوني.. أفكر في ألا ارتدي بدلتي بعد اليوم.. فشرطة بلا هيبة واحترام ويد قوية للقانون تعني ان أكون خيالا للمآتة.. وللأسف في أرض توشك ان تكون قاحلة جدباء«. كانت تلك سطور رسالة لم يحملها لي البريد.. ولكن صاغتها عيون زائغة رأيتها في رجال الشرطة وهم يدفعون جميعاً ثمناً فادحاً، وعقاباً لجرم لم يرتكبه إلا قلة قليلة منهم. رجل شرطة ظالم في بعض الأحيان أفضل ألف مرة ومرة من ألف خيال مآتة!!