الحياة نعمة ربانية، خلقها الله فينا وفي داخلنا ، وخلقها خارجنا فيما حولنا ، وأخبر سبحانه وتعالي أنه يُرينا هذه الآية في الآفاق من حولنا ، وفي أنفسنا ، حتي يتبين لنا أنه الحق .. قال عز وجل : » سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ » (فصلت 53). قال سبحانه وتعالي عما حولنا : » إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ » (الأنعام 95) ، وأنه جل شأنه »جعل مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (الأنبياء 30) ، وقال عز وجل : » وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُون * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ » (يس 33 36) . وأرانا تبارك وتعالي ما في أنفسنا وداخلنا من خلقِهِ وإبداعِهِ ، فَجَعَل نورَهُ سبحانه فينا ، وأعطانا الطاقة الروحية والإحساس العلوي الذي لا نظير له في عالم الطبيعة وفي الكائنات الأخري ، فهو عز وجل قد نفخ فينا من روحه ، وهو سبحانه القائل عن خلق أبينا آدم : » فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » (سورة ص 72) ، وهذه الطاقة الروحية نفحةٌ من نفحاتِهِ عز وجل ، وجزءٌ في تكويننا ، وهو سبحانه الذي خلقنا وسَوَّانا ، وخَلَقَ لنا السمع والأبصار والأفئدة والجوارح، وأقام أجسادَنَا من داخلنا علي نظام تلقائي محكم بديع ، يؤدي دوره دون سعيٍ ولا جهدٍ منا، فيحفظ لنا الحياة التي وهَبَنَا سبحانه إياها . قال عز وجل في أول ما نزل من القرآن الحكيم : » اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإْنسَانَ مِنْ عَلَقٍ » (العلق1، 2) ، وقال عز وجل : » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَي أَجَلٍ مُّسَمًّي ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّي وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَي الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (الحج 5) ، ويقول : » وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » (المؤمنون 12 14). هو جل شأنه الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق لنا ما في الأرض جميعًا ، وخلق لنا أسماعنا وأبصارنا وأفئدتنا وجوارحنا ، في نظام محكم بديع ، فهو سبحانه الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا » وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (النحل 78) ، ولم يخلق لنا سبحانه وتعالي هذا كله وكفي ، بل كفل لنا أداءه لوظائفه في انتظام ودأب لا دخل لنا فيه ، وأمرنا بأن نحسن استخدام ما وهبنا إياه . » إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» (الإسراء 36)، سبحان »الذي خلق فسوي» (الأعلي 2) ، الذي خلقنا فسوانا علي ما أراد من سواء واعتدال ، وأخبرنا سبحانه فقال لنا : » يَا أَيُّهَا الإْنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ » (الانفطار 6 8). الحياة داخلنا وخارجنا فيما حولنا فالحياة إذن موجودة في داخلنا وفي أنفسنا ، وفي خارجنا وفي كل ما حولنا .. وهما متلازمتان تكتمل بهما غاية الحياة .. وفكرة الداخل والخارج إنما هي من مظاهر هذه الحياة . وهو إذ يصدق فينا ، فإنه يصدق علي غيرنا من الأحياء وغير الأحياء . إذ ليس للكون حيوية ولا موضوع ولا معني إلاَّ ضمن الحياة التي تشمله ، ومع أحياء . مجرد تقسيم مدرسي وتقسيم الموجودات إلي جواهر وأعراض ، وأعيان ومجردات ، وواقع وخيال ، وأجسام وطاقات وموجات وغازات وسوائل وجوامد ، وكائنات حية وغير حية . هذا التقسيم مدرسي تعليمي نافع في الأفهام والتعليم وفي جمع وترتيب المعارف والخبرات ، وإمكان الرجوع إليها وإعادة بحثها وتطويرها وتطوير استعمالها في العلم والفن والتقنين . لكنه ليس تقسيما كونيا بأية حال .. وهو ليس تقسيمًا يجري خارج نطاق الحياة بظواهرها . هذه الظواهر التي هي دائما موضوع للوعي البشري ، ويمكن أن تكون موضوعا له بطريق مباشر أو غير مباشر .. هذا الوعي الذي يستحيل فصله عن موضوعه أوفصل موضوعه عنه فصلاً نهائيا فعليا دائمًا بحيث يستقل الموضوع بوعي خاص غير الوعي البشري في مرحلة من مراحل تأمل العقل البشري وفحصه له . تلك بديهية كثيرًا ما تُفْلت من قبضتنا بفضل جاذبية وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً »ألفاظ وعبارات» قديمة وجديدة نسميها ونفردها ونحفظها ونرددها .. تمنحنا هدوءًا دفينًا وتقوي ميلنا إلي الإذعان والاستسلام وتحاشي المعاناة الفكرية والنفسية ! خداع جاذبية الألفاظ والعبارات ونحن بهذه الألفاظ والعبارات ذات الجاذبية ندخل في عالم غير العالم الفعلي ودنيا غير الدنيا وحياة خلاف الحياة التي تنتظم الأحياء وغير الأحياء .. هذه الألفاظ والعبارات تُسْتخدم في عواطفنا ورغباتنا ومخاوفنا . تستخدم في إقامة وتلوين وتأسيس عالم خاص ودنيا خاصة لكل منا . دنيا فيها طرقات ممهدة ومنافذ شيقة وساحات فسيحة تمرح فيها وتسرح رؤي وصور ومتع يتبرع بها الخيال والشوق . هذه الصور أو الرؤي التي تتكون عند تخلصها من الشعور بقيود الوجود الفعلي وأخطاره وتناحره وتضاده ! وحياة الفرد كفرد بسبب محدوديتها ، قد لا يصيبها من هذا ضرر بالغ ، بل قد يساعدها هذا علي التحمل والصبر والانصياع .. ولكن الجنوح إلي هذا إذا عمّ وظلم توقفت حتما الفطنة واليقظة في الجماعة توقفًا يزداد بمرور الأيام وبالاً وخيبة .. وتاريخ البشر مليء بالأمثلة علي ذلك في ملاءته بأفول الحضارات وعفاء العقائد والديانات ! في قصيدة المسرح الحر يقول شاعرنا الحكيم .. أستاذنا محمد عبد الله محمد : مهما تفكرتَ لم تدرك سوي صلة ما بين فعلٍ وفعلٍ خَلْفَها فعلُ لقد جلوتَ كثيرًا هل تري أحدًا إن الخفاء كثيفٌ حول ما تجلو إنَّا بنينا من الأسماء عالَمَنَا والكونُ لا يكتب الأسماءَ أو يتلو ولجّة البحر أَعْجَامٌ حوادثُهَا أنت الذي يصف الأحداث والعقل مهما امتلك الآدمي زمام العلوم والمعارف ، سيظل يحبو في فهم الحياة وإدراك كنهها والإحاطة بأسرارها في أطوار الكون وفي أطوار ذاته . الذات - كما الكون في حالة صيرورة دائمة لا تَبْقَي علي حال . كلها أطوار تؤدي إلي أطوار ، ودوائر تسلس إلي أخري ، العاقل من تأمل فيها وانخرط واعيًا في سننها !
الالتفات والمراقبة هذا ويجب علينا جميعًا أن نسلم بأن وجودنا في الحياة ، وجودٌ له غاية وليس وجودًا باطلاً خاليًا من المعني والفائدة . تنسحب قيمة هذا الوجود علي العالم والجاهل ، وعلي الغني والفقير ، وعلي الصحيح والضعيف ، وعلي الحاكم والمحكوم . فلا فضل لأحدٍ من في خَلْقِهِ وفيما سَوَّاه الله عليه ، ونحن جميعًا خَلْقُهُ ، ولكل مِنَّا معناه عند خالِقِه عز وجل . نعم ؛ نحن لا نخلو من أن يكون لنا نصيب بسلوكنا معه عز وجل ، وبسلوكنا في الحياة . وهذا النصيب ملحوظ لدي خالقنا سبحانه وتعالي ، سواء فيما نحن عليه ، أو فيما صار أو انتهي إليه هذا أو ذاك . حدودنا البشرية إن رأينا دائمًا في أنفسنا وفي غيرنا فيه جانب من المغالاة ، ومن التجاوز كبيرًا كان أوصغيرًا. يتأثر حتمًا بقلة ما نعلمه ومبلغ ما نحس به من الضيق وانحصار نظرتنا وتصوراتنا ونسبية ما نتّبعه عادةً من القيم والموازين ، وما نغار عليه من المبادئ والمصدقات . من شأن ذلك كله أن يقودنا إلي إصدار الأحكام ، وقد نحاول دعوة الغير لمشاركتنا فيها . لم يخل آدمي من تخطئة أوتصويب غيره باعتدال أو بتطرف ، وهذا ولا شك داخل في أسس أحكامنا البشرية التي نطلقها أصابت أم أخطأت علي الأخلاق والأحداث وعلي العالم من حولنا !! بوصلة العاقل الحصيف ، تكمن في الالتفات والمراقبة . الالتفات المتفطن لما حوله ، ومراقبة ذاته ومراجعتها علي الدوام للاعتدال بها إلي جانب الرشد والصواب ما استطاع الإنسان إلي ذلك سبيلاً !