»إنما الأمم الأخلاق ما بقيت«.. وهنا مربط الفرس. فلاشك أن الشارع المصري يشهد اليوم حالة فريدة وغريبة من الانفلات التي تقوم بها بعض القوي السياسية، والتي تحاول الإساءة لكل المعاني والرموز الجميلة، التي قامت من أجلها ثورة يناير. ولا نبالغ عندما نقول أنها امتدت لقطاعات عديدة في المجتمع كسلوك طبيعي، يحاول الناس من خلاله التمرد علي الأوضاع، التي كانت سائدة طوال الحقبة الماضية، والتي أفرزت مناخا من الظلم وعدم العدالة والفساد المنظم. غير أن هذا التمرد يتم بطرق ومعايير مخالفة لكل قواعد الحرية والديمقراطية، ليتحول إلي فوضي مدمرة، ونوع من التشفي وتصفية الحسابات. إن ترك الأمور علي هذا الحال تنبئ بنتائج وخيمة، خاصة مع تنامي الاحساس الخاطئ بأن التظاهر أو الاعتصام أو الرفض المسبق لأي إجراء تقوم به الحكومة، يمثل سلاحا فعالا وصولا لتحقيق المطالب، وبالطريقة والأسلوب اللذين يحددهما الناس بعيدا عن القانون والشرعية. واعتقد واثقا أن أسلوب الأداء الحكومي لابد أن يبدأ من اليوم في إعلاء هيبة الدولة، دون مصادرة لحرية الرأي والتعبير، التي يجب أن تتم في إطار ضوابط أخلاقية وشرعية ارتضاها المجتمع، وصاغت مع السنوات منظومة قيمه وتقاليده وموروثاته الاجتماعية. ويبدو أن دماثة الخلق وأسلوب العمل الهادئ ومحاولة امتصاص صيحات الغضب - بحق وبدون حق - من جانب الحكومة، قد أعطت إشارات خاطئة يستغلها البعض أسوأ استغلال في محاولات الضغط المستمرة لتحقيق بعض المطالب، وربما المصالح الخاصة أو الفئوية، دون الأخذ في الاعتبار حقيقة الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها مصر. أوضاع لا يعجبني لغة التفاؤل والتقليل من أخطارها وسلبياتها في حديث بعض المسئولين بالحكومة عنها. فلاشك أن التفاؤل غير المرتبط بالحقائق يولد مشاعر متجددة ومتزايدة، تعلي من سقف المطالب ومحاولات البعض توجيه خطوات الحكومة في اتجاهات قد تضر مستقبلا، وقد تعوق أي قدرة لها علي الحركة، خاصة في ظل ظروف اقتصادية ليست صعبة ولكنها خطيرة، وأوضاع اقليمية لم تشهدها المنطقة من قبل، وربما يكون لتفاعلاتها وتأثيراتها نتائج مباشرة علي الأوضاع بمصر. يحدث ذلك في أجواء بعيدة تماما عن مكنون أروع ثورة شعبية يشهدها العالم، وسطرها شبابنا بدماء ذكية وانتماء ووطنية، ستظل طويلا مضربا للأمثال. لقد كان لحسن التنظيم والدقة والعمل بروح الفريق الواحد - خلال الأيام الأولي للثورة - كل الفضل في نجاحها، وهو ما يؤكد أن حالة الانفلات والفوضي التي تحدث من وقت لآخر، لا علاقة لها بالثوار من قريب أو بعيد. وهنا نصل إلي مربط الفرس في لغة الحساسية المفرطة التي تخاطب بها الحكومة المواطنين علي استحياء، وتخوفها الدائم من أي شعور قد يتولد لدي البعض بأنها تحيد عن روح ومبادئ الثورة، إن هي أعملت القانون ونفذته، ورفضت الانصياع لدعاة الغوغائية وركوب الموجة، إلي درجة الإساءة لمصر الوطن والأرض والشعب والقيم والتقاليد. أعرف أن الدكتور عصام شرف وكل أعضاء حكومته يحاولون جادين الخروج من هوة توقف الانتاج، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين مستويات المعشية، وذلك لن يتحقق بالوعود والآمال وأسلوب "سوف تعمل حكومتي". كما أن اللجوء للقروض الخارجية أو الانفاق من الاحتياطي النقدي، لا يمكن أن يكون ثمنا لعدالة لن يحققها رفع الأجور فقط، ولكن يحققها انضباط شعب وقناعة أمة بأن العمل والانتاج والالتزام بالشرعية والقانون هي السبيل الوحيد لتحقيقها، وكلنا نتذكر المثل الذي يقول »نريد شبكة نصيد بها، ولا نريد سمكة نأكلها« وأخشي ما أخشاه ألا نجد البحر الذي نصيد منه أصلاً. ولكي يتحقق ذلك، لابد أن نبدأ جميعا في تحصين منظومة الأخلاقيات التي تشهد اليوم انتكاسات كثيرة، نلمسها جميعا في لغة تخاطبنا وتعاملاتنا.. نلمسها في صورة اعتداء سافر علي المستشفيات وبعض المصالح الحكومية، من جانب بعض البلطجية الذين يعيثون في مصر فسادا وإفسادا.. نلمسها في اعتصامات ومظاهرات فئوية، أصبحت جزءا من سلوكيات خاطئة تؤمن عن يقين وإن كان زائفا بأن الحكومة سوف ترضخ في النهاية. لقد هالني وأحزنني الأسلوب الذي يتم التعامل به مع رفض المواطنين لتولي مصري مسيحي عمله كمحافظ لقنا، والتي أخذت القضية إلي مناح شريرة تحركها أصابع خفية، لترسيخ انشقاق وتناحر بين المصريين، مسلمين ومسيحيين. هالني تركيبة تلك الوفود التي أعلن انها ذهبت إلي هناك لحل الأزمة، وذلك بعد فشل وساطة أو تدخل وزيري الداخلية والتنمية المحلية. هالني ما يتردد عن تقديم المحافظ لاستقالته، أو أن هناك تفكيرا في نقله لمحافظة أخري. وهي كلها تصب في خانة واحدة تحمل مؤشرات خطيرة، قد تمتد لتشمل بعد ذلك أي مسئول وفي أي موقع. نعم، نحلم جميعا بأن يكون الانتخاب والاختيار الحر متاحا في كل المناصب، التي تتطلب تعاملا مباشرا مع المواطنين.. لكننا أبدا لن نطرب لمحاولات الضغط والرفض واستعراض القوة، التي يقوم بها من يرتدون اليوم أثواب الثورة، وهي منهم جميعا براء.