د. عمرو درّاج بدأت الاسبوع الماضي كتابة سلسلة جديدة من المقالات تحت هذا العنوان، حيث أري من مناقشاتي ومقابلاتي اليومية مع سائر أطياف المجتمع المصري، الحاجة الشديدة لإشاعة روح التفاؤل وبث الأمل بين الناس، ليكون ذلك دافعاً قوياً للعمل والانتاج وتجاوز المحن التي تمر بها بلادنا، وذلك في ضوء عوامل موضوعية حقيقية تملأ الشعب قناعة بمستقبل مشرق لمصر، بعد تجاوز فترة الاضطرابات والقلاقل التي عادة ما تصاحب الفترات الانتقالية في أعقاب الثورات الكبري التي يتغير من خلالها مسار التاريخ. استعرضت في الاسبوع الماضي السبب الأول لتفاؤلي، وهو الثقة غير المحدودة في الله عز وجل، وفي تحقق وعده، الذي ظهر من خلال المشاهدات المتعاقبة التي صاحبت الثورة كما شرحت في مقالي، واستكمل اليوم بعض الأسباب الأخري للتفاؤل، ومن أهمها ثقتي أيضاً غير المحدودة في الانسان المصري وفي قدرته علي تجاوز المحن والصعاب، وهو ما ثبت عبر التاريخ من خلال ميراث الحضارة المخزون والكامن في داخله، والذي يظهر معدنه الأصيل أثناء الشدائد، فهو الذي قهر الغزاة الخارجيين بدءاً من الهكسوس علي يد أحمس الأول والحيثيين علي يد رمسيس الثاني، مروراً بالصليبيين علي يد صلاح الدين الأيوبي، ثم التتار علي يد سيف الدين قطز (وهو النصر الذي حدث بعد ثلاث سنوات فقط من سقوط بغداد) وحتي نصر أكتوبر العظيم الذي تحقق بعد ست سنوات فقط من نكسة يونيو الماحقة. كما أظهر الشعب المصري في تاريخه الحديث أنه شعب ثائر لا يرضي بالظلم والطغيان، و ليس خانعا مستكينا سلبيا كما يشاع عنه أحيانا، حيث قام بخمس ثورات كبري علي مدار القرنين الماضيين منذ عهد محمد علي، مروراً بثورة عرابي وثورة 1919 حتي ثورة 1952 وانتهاء بثورة 25 يناير المباركة، وفي خلال هذه الفترة أيضاً قهر الاحتلال الفرنسي علي يد نابليون بونابرت، ثم أخرج الاحتلال البريطاني إلي غير رجعة في أعقاب ثورة يوليو، ومثل هذا الشعب الذي أظهر شدة العزيمة ورفض التبعية والطغيان هو بكل تأكيد قادر علي استرداد عافيته والسير علي طريق الرقي والتقدم برغم كل ما يحاك له من مؤامرات وما يوضع أمامه من عراقيل. والسبب الثالث لتفاؤلي هو ما تحقق بالفعل علي طريق استكمال المسار الديمقراطي والدستوري في خلال عامين فقط و في وجود قدر كبير من الفوضي والاضطراب الذي عادة ما يصاحب المراحل الانتقالية، فقد نجح الشعب المصري في إقامة انتخابات برلمانية حرة نزيهة لمجلسي الشعب والشوري شارك فيها أكثر من 37 مليون مصري، وذلك لأول مرة منذ ستين عاماً، كما انتخب رئيساً مصرياً ينتمي للثورة بإرادته الحرة المباشرة بعد جولتين انتخابيتين تنافس فيهما عدد من المرشحين تنافسا حقيقيا، وذلك لأول مرة في تاريخه القديم والحديث، ثم انتج دستوراً نابعاً منه، شارك فيه بالرأي مئات الآلاف من المصريين في ربوع مصر كلها، ووافق عليه ثلثا المصريين بإرادتهم الحرة المستقلة علي الرغم مما صاحب انتاجه من عمليات التشويش و التشويه، كما أنهي في خطوة لافتة السيطرة العسكرية علي الحياة السياسية التي استمرت ستين عاما، و جعل ممارسة السياسة حكراً علي المدنيين، حتي يتفرغ الجيش لأداء مهمته المقدسة في حماية حدود الوطن و سلامة أراضيه، وذلك بعد شهرين فقط من انتخاب الرئيس، بشكل أذهل العالم أجمع، لما تستغرقه عادة مثل هذه المرحلة من عدد من السنين قد يفوق العشر، كما حدث في العديد من الدول التي مرت بمثل هذه الظروف. وقد يناقش القارئ بأن مجلس الشعب قد تم حله ، وأن الرئيس الدكتور محمد مرسي غير متوافق عليه بين طوائف الشعب ، بل وأن الدستور ايضاً يوجد بعض الاختلاف حول عدد من مواده ، فأين الإنجاز إذن؟ وأبادر بالرد بأن هذا صحيح إلي حد كبير ، إلا أنه لا زال يمثل خطوات مهمة و جادة علي طريق الوصول للاستحقاق الديمقراطي الكامل، فصحيح ان مجلس الشعب قد تم حله بحكم قضائي مختلف علي مدي تدخل السياسة فيه ، إلا أن هذا المجلس قد نجح في انتاج عدد من التشريعات الهامة ، قد يكون من أهمها وضع التعديل القانوني الذي يضمن نزاهة نتيجة الانتخابات بالنص علي الإلزام بالفرز في اللجان الفرعية عقب الانتهاء من العملية الانتخابية ، مما حصن هذه النتائج من الطعن و أعطي لها المصداقية إلي حد كبير علي النحو الذي رأيناه بعد ذلك في انتخابات الرئاسة وفي عملية الاستفتاء علي الدستور، و ذلك فضلا علي الإنجاز الكبير في حد ذاته بمشاركة الملايين علي نحو غير مسبوق، فمشهد اللجان الخاوية التي ينوب البعض فيها بالإدلاء بالأصوات عن الآخرين قد انتهي إلي الأبد . وعلي الجانب الآخر ، فإن الرئيس مرسي فاز بمنصبه بأغلبية حوالي 52 ٪ فقط مما يعني أن 48 ٪ لم يكونوا راضين عن هذا الاختيار ، وقد تكون هذه النسبة قد زادت أو قلت الآن بعد تسعة أشهر من توليه منصبه ، كما أنه يتعرض للنقد الشديد ليل نهار ، والذي قد يخرج عن حدود اللياقة في كثير من الأحيان ، إلا اننا حين نري كل ذلك فهل يمكن أن نضعه في خانة عدم الاستقرار والرفض الشعبي كما يحلو للبعض تصويره ، أم أن هذه المظاهر هي بالضبط ما يصاحب آليات الديمقراطية في كل دول العالم المتحضر؟ ألانتوقف للحظة واحدة لمقارنة ذلك بالوضع الذي كنا عليه قبل الثورة ؟ وهل كان سيختلف الأمر كثيراً لو فاز أحد المرشحين الآخرين المنافسين له ؟ وهذا كله يعني اننا خطونا للأمام خطوة واضحة وكبيرة علي طريق التحول الديمقراطي بتنصيب حاكم مصري بإرادة شعبية مستقلة، غير محصن ضد النقد، و يمكن تغييره ديمقراطيا بنفس الآليات إذا رأي الشعب ذلك بعد استكمال فترته الدستورية . أما فيما يتعلق بالدستور، فحتي الكثيرون من المعترضين عليه يقرون بأنه احتوي قدراً غير مسبوق من الحقوق والحريات ، وأنه أرسي بشكل واضح أسس ودعائم الدولة الحديثة والفصل بين السلطات وصلاحيات كل من المؤسسات الدستورية ( وهذا القدر ليس من المختلف عليه في الدستور وهو ما يسمح بإرساء دعائم الجمهورية الثانية بشكل راسخ) ، و أنهي إلي غير رجعة الصلاحيات الفرعونية التي كانت ممنوحة لرئيس الجمهورية، وبالتالي فإن الجزء الأهم فيما يتعلق بإنهاء المرحلة الانتقالية قد تم انجازه، ويبقي جزء بسيط لا يتعدي المواد العشر من أصل 236 مادة يحتويها الدستور يمكن أن نتحاور حولها وننظر في كيفية التوافق عليها ، طبقاً للآليات التي وضعها الدستور نفسه، و ذلك فور انتخاب مجلس النواب، و هذا لا يمنع بالطبع من استكمال الاستحقاق الديمقراطي علي النحو الذي ينهي المرحلة الانتقالية و ما يصاحبها من مظاهر الاضطراب و عدم الاستقرار . ولكي يشعر القارئ الكريم بأهمية هذه الخطوات الحاسمة فإنه يمكن أن يقارن ذلك بالوضع الحالي في بلدان الربيع العربي الاخري مثل تونس وليبيا ، ففي تونس يكاد يمر عام ونصف علي عمل الجمعية الوطنية التأسيسية دون الوصول إلي توافق حول مسودة الدستور ، ودون وجود رئيس جمهورية منتخب انتخاباً حراً، واستكمل أسباب التفاؤل في الأسبوع المقبل بإذن الله .