من المبكر إجراء تقييم موضوعي للموسم المائي الصيفي الحالي، فمازلنا في الثلث الأول من الموسم الذي يستمر معنا أربعة شهور حتي أغسطس القادم، لكن هناك مؤشرات تعطي دلالات بالغة الأهمية ينبغي دراستها بعناية إذا أردنا ترشيدا فعليا لاستهلاك المياه. بدأ الموسم الحالي وهناك رغبة جادة من أجهزة الدولة في تقليل كميات المياه اللازمة لري الأرز، وذلك بالتركيز علي المساحات المقررة فقط وقدرها مليون وستة وسبعون ألف فدان، بسبب انخفاض إيراد الفيضان. وفعلا تم تطبيق جدول تصرفات مائية متقشف، يناسب المساحات المقررة. في نفس الوقت كانت هناك رياح معاكسة تدفع الفلاحين لتجاهل كل دعوات الترشيد، والتوسع في زراعة الأرز، الرياح تمثلت في السعر المتدني لقنطار القطن الذي جاء مثل العام الماضي، وبلا أي زيادات تتواءم مع معدلات التضخم المرتفعة. وجاء أيضا سعر الأذرة منخفضا لينصرف المزارعون عنه. في نفس الوقت جرت عملية تعطيش للأرز في الأسواق، ليقترب من عشرة جنيهات لأول مرة في تاريخه. وأصبحنا أمام رغبتين متعارضتين، واحدة حكومية تدعو للترشيد والأخري شعبية تدعو للتوسع. وكانت دعوة التوسع أكثر إغراء للفلاح لتصل التقديرات المبدئية للمزروع منه حتي الآن 1.2 مليون فدان، وبذلك يمكن أن يصل إجمالي المساحة في نهاية الموسم 2.5 مليون فدان، بزيادة قدرها مليون فدان عن العام الماضي. مع الإصرار علي تطبيق برنامج التصرفات المتقشف، انحسرت مناسيب المياه في الترع مما أدي لتكالب الفلاحين علي الكميات القليلة المتاحة، وتاهت الخطوط بين المساحات المقررة والمخالفة، كما تداخلت الفواصل بين زارعي الأرز وزارعي المحاصيل الأخري مثل الأذرة أو القطن، فالعطش طال الكل، واستفادت الأراضي التي تقع في بدايات الترع من مرور المياه أولا عليها فتم حرمان كل المساحات التي تقع في نهايات الترع حتي ولو كانت غير مخالفة. ورأينا لأول مرة مهندسي الري وهم مصحوبون بقوات أمن مسلحين ليتمكنوا من منع الفلاحين في أول الترعة من الري ومصادرة آلات الري الخاصة بهم، حتي يتيحوا الفرصة لوصول المياه للنهايات. كما تم تكثيف حملات إزالة المشاتل المخالفة بالقوة لمنعها من الانتقال إلي محاضنها الطبيعية، وتم تحرير أكثر من 14 ألف محضر مخالفة. تلاشت دعوات الترشيد الحكومية وسط شكاوي الفلاحين التي ملأت الفضاء الإعلامي وكسبت تعاطف الشارع المصري، والسياسي (هناك أعضاء بالبرلمان هددوا بالاعتصام لو لم تصل المياه لدوائرهم) ولم يقتنع أحد بالمنطق الذي واجهت به الدولة توسع الفلاحين في الزراعات المخالفة، فمن الظلم للفلاح أن نتهمه بعدم الوعي في ظل غياب بديل محصولي يدر دخلا مناسبا له. كما أن التصريحات المتعلقة بضعف الإيراد المائي انطلقت متأخرة في أوائل شهر مارس الماضي، بينما يتخذ الفلاحون قرار الزراعة الصيفية مبكرا في فبراير علي الأكثر، فلم تجد دعوات الترشيد آذانا صاغية أو مصدقة لرغبة الدولة، أو قدرتها علي التنفيذ. في النهاية، وتحت ضغط شعبي وإعلامي واسع، اضطرت وزارة الري إلي تعديل جدول تصرفات السد العالي، ليتم إطلاق كميات هائلة من المياه بلغت 20 مليار متر خلال الفترة الماضية، وهي أكبر مما تم صرفه في نفس التوقيت العام الماضي، طبقا للتصريحات الرسمية الصادرة من الوزارة، وبذلك يكون الهدف العام الذي سعت له الدولة بترشيد استخدامات المياه لم يتحقق هذا العام، بل ازدادت التصرفات المائية عن العام الماضي بحوالي خمسة مليارات متر مياه، وهي كمية لا تقل عن عشر حصتنا السنوية القادمة من أعالي النيل. كما تكبد المزارعون خسائر اقتصادية فادحة أيضا، فقد اضطر كثير منهم إلي إعادة زراعة أراضيهم مرة أخري بعد أن ماتت شتلاتها نتيجة الجفاف، بالإضافة لنشوب النزاعات بين المزارعين وبعضهم البعض للتسابق علي أولوية الري، والنزاعات بينهم وبين اللجان الحكومية المشكلة لإزالة الزراعات المخالفة. التقييم السريع يقول إنه موسم جانبه التوفيق، لأنه لم يحقق أهدافه، لم ننجح في ترشيد المياه، بل استهلكنا كمية أكبر من العام الماضي، كما لم يرض الفلاحون عن إدارة المياه ولم يتقبلوا فكرة الترشيد بالرغم من المجهود الكبير الذي بذله مهندسو الري هذا الموسم. ويتبقي الدرس الأهم وهو الاستعداد للموسم القادم بإجراءات تبدأ من اليوم، من خلال تخطيط وتنسيق شامل بين الوزارات المعنية، ري وزراعة وتموين وتجارة، مع وضع خطة طوارئ عاجلة للعام القادم، وأخري آجلة للخمس سنوات القادمة، خطة تأخذ في اعتبارها السيناريو الأسوأ وهو استمرار الانخفاض في الفيضان، ويمكن أن نستعرضها في مقالات أخري إن شاء الله.