في البدء استبدت بتل أبيب مشاعر القلق من التدخل الروسي العسكري في سوريا إلي أن تم إنجاز التفاهم العسكري مع موسكو ونشأت قناة التعاون بينهما للتنسيق في التحركات الجوية علي سماء سورياً تفادياً لأي صدام عن طريق الخطأ. الآن عاد القلق من جديد، فقد وقع قرار الرئيس بوتين بتخفيض القوات الروسية المتواجدة في سوريا علي الدولة العبرية كالزلزال ليس فقط لفجائيته التي أصابت الجميع، إنما لغموض دوافعه وهل المقصود به إرساء وضع جديد في سوريا أم مجرد انسحاب تمهيداً لهجوم جديد؟. القلق هذه المرة صار من غياب الروس عن الساحة بعد أن تعودت تل أبيب علي وجودهم الذي كان يوفر ضمانة لعدم اندلاع خطر المواجهة الإسرائيلية مع إيران. فإذا حدث وانهار اتفاق وقف إطلاق النار نتيجة الانسحاب الروسي، ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة موقف لا تحسد عليه. التقديرات الإسرائيلية تشير إلي أن اسباب الانسحاب الروسي هو أن بوتين حقق نجاحاً معيناً بالتوصل إلي اتفاق وقف إطلاق النار القائم علي نحو ما حالياً.وأن العالم أصبح يدرك انه لم يكن ممكناً توصل الأطراف المتناحرة إلي اتفاق التهدئة لولا هجماته الجوية، وأن الرئيس الروسي قام بدعم وتعزيز سلطة الرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة الجماعات المناهضة له بما يتيح له المضي نحو أي مفاوضات للتسوية من موقع قوة. من ثم أنجز بوتين المهمة وخرج قبل أن يغرق في المستنقع السوري إذ تقبع في ذاكرته تجربة الحرب الأفغانية. ما أشاع الطمأنينة لدي تل أبيب بعد القلق هو تلميح الرئيس الروسي بأن الانسحاب سيكون تدريجياً ببقاء بعض التواجد الرمزي لقواته في الأراضي السورية لاسيما في ميناء طرطوس، وقاعدة اللاذقية حيث تتواجد طائرات روسية وجنود لحماية هذه القاعدة الاستراتيچية التي نفذ منها سلاح الجو الروسي حوالي 100 طلعة من القاعدة الجوية هناك. لكن مع ذلك كانت هناك بعض التخوفات الإسرائيلية والتساؤلات حول أبعاد تخفيض القوات الروسية وعن طبيعة الخريطة السياسية الجديدة التي تحاول موسكو فرضها علي سوريا. لتبديد القلق هرع الرئيس الإسرائيلي راؤوڤين ريڤلين إلي موسكو. وفي لقاء بالكرملين استمر ثلاث ساعات كاملة مع الرئيس الروسي ڤلايمير پوتين عرض الأول كل مخاوف الدولة العبرية، والخطوط الحمراء التي لا يمكنها التنازل عنها في أي ترتيبات سياسية لسوريا تلوح في الأفق حتي لا تتصادم مع مصالحها الچيو- ستراتيچية في سوريا عند الانتهاء من إعداد تسوية نهائية للأوضاع هناك، وشرح له حرص تل أبيب علي استمرار التعاون العسكري مع موسكو بالحفاظ علي قناة هذا التعاون التي تضم قادة عسكريين من كلا الطرفين. كذلك أوضح له رغبة تل أبيب في عودة قوة المراقبين الدوليين التابعة للأمم المتحدة إلي هضبة الجولان والتي أنشئت منذ حرب أكتوبر 1973. أول الخطوط الحمراء يتعلق بمنع أي تواجد للقوات المسلحة الإيرانية علي الحدود الشمالية لإسرائيل وبأي ثمن، وهو ما يعني ان تل أبيب سوف تكرر عدوانها إذا ما حاولت القوات الإيرانية أو قوات حزب الله الاقتراب من الجولان. الخط الأحمر الثاني الذي لم يذكر مباشرة لكن يفهم من مدلول الكلام هو ان اسرائيل لا تعتزم الانسحاب من الجولان، وأنها معنية بأن يرد ذكرتواجدها بالجولان بشكل أو بآخر في أي تسوية ليكون بمثابة اعتراف دولي باحتلالها لهذا الجزء من الأراضي السورية. الموضوع الثالث الذي استغرق وقتاً طويلاً في المناقشة هو القلق الروسي من التقارب الوشيك بين تركيا وإسرائيل في ظل علاقات متوترة بين موسكووأنقرة ولهفة الأخيرة علي شراء الغاز الإسرائيلي. الرد الروسي علي الهواجس الإسرائيلية بدا مريحاً للرئيس الإسرائيلي، فقد اشار بوتين إلي أهمية العلاقة مع الدولة العبرية التي تضم مئات الآلاف من المهاجرين الروس وتستقبل منهم الآلاف من السياح. ما لم يذكر صراحة في وسائل الإعلام العبرية عن ثنايا اللقاء ولكن تم الإيحاء به هو الموقف الروسي من تقسيم سوريا. فبعد يومين من لقاء القمة الروسي - الإسرائيلي نشر موقع دبكا العبري المقرب من الاستخبارات أن موسكو بدأت إعادة رسم الخريطة السورية علي أسس خطوط فيدرالية وتعزيز نفوذها في أول منطقة سورية تتمتع بالحكم الذاتي. وزعم الموقع العبري نقلاً عن «مصادره» الاستخبارية أن الأصابع الروسية كانت وراء تأسيس المنطقة السورية الكردية الفيدرالية في 17 مارس الجاري أثناء الاجتماع الذي عقدته قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وأضاف الموقع العبري ان الكيان الجديد المتمتع بالإدارة الذاتية يغطي ثلاثة جيوب يسيطر عليها الأكراد وهم الجزيرة والحسكة وقميشلي، وأن المتوقع بعد ذلك أن يقوم أكراد سوريا بالقتال بدعم روسي لربط الچيوب الثلاثة في منطقة متكاملة تتمتع بالإدارة الذاتية بطول 500 كم علي الحدود التركية، وأضاف الموقع نقلاً عن مصادره المجهولة ان الرئيس الروسي وعد قيادات الأكراد بأن الطائرات الروسية ستكون هناك للدفاع عن المنطقة في حالة غزو تركيا لها. المعروف ان أنقرة تعارض تماماً قيام أي كيانات كردية مستقلة لا سيما علي حدودها وقد لجأت للولايات المتحدة من أجل الحصول علي دعمها وكان رد الخارجية الأمريكية هو أن واشنطن لا تؤيد قيام مناطق ذات إدارة ذاتية او ما يشبه الحكم الذاتي «داخل» سوريا وأن الهدف هو سوريا الكاملة الموحدة غير الطائفية(!) فهل تصبح سوريا الكاملة الجديدة خالية من الاكراد؟