د. فوزى فهمى يبدو ان الولاياتالمتحدة راحت تطور آليات فرض استباحتها لاستقلال الدول، باستحداث مستودعات الأسرار، الصانعة للتقارير الاستخباراتية التي تختلق ذرائع معدة مسبقا ضد هذه الدول، تسويغا لمشروعية غزوها، أو التقنع لاختراقها، اذ أعلن البنتاجون في ابريل 2102، عن إنشاء ما أسماه »خدمة الدفاع السرية«، وهي وكالة جديدة للمخابرات العسكرية الأمريكية، تتحدد قصديتها حصريا للتجسس علي أهداف تتعلق بحروب أمريكية مستقبلية. ولأن كارثة غزو العراق مازالت ماثلة بنتائجها التي أثبتت كذب ادعاءات أسبابها المعلنة، وما روجته التقارير الاستخباراتية المصنعة، لذا يحلق في الأذهان ذلك التمفصل المتماثل بين ما حدث في كارثة العراق، ومهام وكالة »خدمة الدفاع السرية« الاستخباراتية الجديدة، بوصفها تتبدي محض ذريعة اختلاق لسيناريوهات قابلة للتعيين كتصور، دون أن تكون حقيقية بالضرورة، وترويجها إعلاميا حتي تقع الكارثة، وبوقوعها تسقط أسبابها، كما انها أيضا تقدم تسويغا ضمنيا للسلطة الرئاسية أمام الكونجرس، لتصبح حائزة علي مشروعيتها فيما تؤسس له من ممارسات عسكرية، حيث ينص الدستور الأمريكي بوضوح ان للكونجرس وحده، سلطة اعلان الحرب، وفي ضوء هذه التقارير الاستخباراتية تزول عن الغزو صفة العدوان، بوصفه حربا استباقية دفاعية، ضد أهداف مضادة مستترة، كشفتها كفاءة شبكات التجسس المختصة، لذا منح البرلمان الأمريكي بمجلسيه الرئيس »بوش«، سلطة مفتوحة النهاية لشن الحرب علي العراق، كما منحه أيضا سلطة غير محدودة لاستخدام أية وسائل، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل، في أي وقت يراه مناسبا. استندت الحرب الترويجية الأمريكية ضد العراق، إلي التقارير الاستخباراتية التي تتضمن دلالاتها، التأكيد ان أمريكا تمتلك مراقبة فضاء العالم كاملا، وبذلك ترسخ ضبط، كل أشكال مقاومة الحضور الدولي وتحييدها تجاه تقاريرها الاستخباراتية، اذ في مجلس الأمن بتاريخ الخامس من فبراير 3002، وقف »كولن باول«، وزير الخارجية، وكان يجلس خلفه مباشرة »جورج تينيت«، مدير المخابرات المركزية، وهذا التجاور يعد مشهدا مرفقا بالتحذير من أي تطلع مضاد، يشكك فيما تطرحه التقارير الاستخباراتية التي يستند إليها »كولن باول«، الذي أعلن أنه سيقدم استخبارا أمريكيا سريا متميزا، يبرهن علي وجود أسلحة كيميائية، بيولوجية، ونووية بالعراق، وراح يشرح صورة التقطت في نوفمبر 2002، تؤكد وجود مستودعات كيميائية بالعراق، وأشار إلي شاحنة بوصفها دليلا، وصفها بأنها تقوم بتطهير المواد في حال حدوث أمر غير متوقع، ثم عرض »باول« أيضا صورة إحدي مركبات الأممالمتحدة التي وصلت إلي الموقع في ديسمبر 2002، معلقا بأن الشاحنة قد اختفت، مؤكدا ان أمر التفتيش قد تسرب إلي العراق. أكد تصريح »باول« احتكار التقارير الاستخباراتية المطلق للحقيقة، واتهامه المغلف لأجهزة التفتيش بالأممالمتحدة. صحيح أن »هانس بليكس« رئيس فريق مفتشي الأممالمتحدة ناقض ما طرحه »باول«، مقرا ان مفتشيه قاموا مرارا بزيارة الموقع الموجود بالصورة، وان الشاحنة كانت موجودة، بل انهم قاموا بأكثر من 004 عملية تفتيش، غطت 003 موقع، دونما اخطار مسبق، لكن الصحيح كذلك أن »باول« استمر في ممارسة التخطي لمفتشي الأممالمتحدة، حتي لا تواجه التقارير الاستخباراتية أية مرجعية دخيلة عليها، حيث أعلن ان لديه مصادر متاحة تفضل ما لدي المفتشين. سلم »باول« إلي د. محمد البرادعي المدير العام لوكالة الطاقة الدولية آنذاك، وثائق ادعي انها تبرهن علي أن العراق قد أحيا جهوده لانتاج أسلحة نووية، لكن د. محمد البرادعي شهد في مارس 3002، أمام مجلس الأمن، بأن وكالة الطاقة، تأسيسا علي التحليل الدقيق، انتهت إلي أن هذه الوثائق هي في الواقع غير حقيقية، ومن ثمة فإن تلك الاداعاءت تحديدا لا أساس لها من الصحة. تحفل المراجع التي تناولت دراسة ملابسات هذا الغزو، بالوقائع الكاشفة لقفز الإدارة الأمريكية علي الحقائق، اصرارا علي العدوان، نورد منها شهادة »تشالمرز جونسون«، في كتابه »أحزان الامبراطورية«، الصادر 4002، حيث يقر »انه لم يعثر علي أية أسلحة غير تقليدية، تقارب من بعيد الكمية أو القدرة علي التدمير، وفقا لمزاعم إدارة بوش. ان مسئولين كبارا قد زيفوا الذرائع للحرب علي العراق، وهذه جريمة احتيال وتدليس علي الكونجرس والشعب الأمريكي، لكن لم يتم ذكر عن المحاسبة«. وقعت الكارثة، وسقطت معها أسبابها. وجاء التدمير لا يمت بصلة إلي ما قبله من أسباب معلنة. صحيح قد يكون هدف السيطرة علي النفط سببا مقنعا، لكن تري ألم يكن اسقاط الدولة الوطنية العراقية، وتمزيقها بين مواجهات عرقية، وطائفية، هدفا كي يظل الاحتراب بين الكل قائما؟ أليس علينا ألا نغفل عما يجري حولنا من أساليب الاستباحة المستخفية عن طريق »حروب الظل«؟ فاستباحة الجغرافيا هي استباحة للتاريخ، ولا معني لوطن دونهما معا.