ليس مصادفة أن يبدأ القرآن الكريم بقول الله تعالي (الحمد لله رب العالمين) وينتهي بسورة اسمها (الناس) بما تضم هذه الكلمة من عناصر مختلفة ونماذج متعددة من بني البشر، وفي ذلك إشارة قوية إلي حضور المقصد الإنساني للقرآن الكريم باعتباره كتاب هداية وإصلاح لكل الناس.. نعم كل الناس وليس للمسلمين فقط دون غيرهم! ومادمنا نتحدث عن التجديد فإن أول مجال للتجديد الذي نحتاجه في تقديم ديننا إلي العالم المعاصر هو إعادة فهم القرآن الكريم باعتباره دستور هداية للبشرية جمعاء.. ففي هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالي لهداية الناس قدرة عجيبة علي إنتاج حضارة عالمية تسع كل البشر علي اختلاف عقائدهم وألسنتهم وألوانهم، وحل كثير من مشاكل العصر الاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية. نزل القرآن الكريم فانبهر العرب به لأنهم كانوا أهل بلاغة وفصاحة وبيان.. هذا علي المستوي اللغوي والبلاغة.. وكما قلنا فسر صدمة العرب الأُوَلُ عند سماعهم للقرآن أنهم كانوا فصحاء يفهمون اللغة العربية سليقة، فقد كان أبو جهل، وأبو سفيان وغيرهما يذهبون كل ليلة في الخفاء ليستمعوا القرآن رغم كفرهم وعدواتهم للنبي - صلي الله عليه وسلم - لما وجدوا فيه من بلاغة وفصاحة ليست معهودة عند أحد منهم مع أن اللغة كانت هي أكثر ما برعوا فيه شعراً ونثراً. ومما يدل علي فهم العرب له ما ورد أن الوليد بن المغيرة جاء إلي النبي - صلي الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن فكأنه رقَّ له وتأثر به، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه يعرض عليه مالا حتي يسيء إلي محمد وينكر قوله، فغضب الوليد وقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً ولست أحتاج إلي هذا، قال أبو جهل: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يُعلي، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضي عنك قومك حتي تقول فيه! قال: فدعني حتي أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يُؤثر. إن فهم اللغة العربية وتذوق معانيها هو السر الذي ضاع منا اليوم؛ فلم يعد القرآن فعَّالًا في حياتنا المعاصرة كما كان قبل ذلك.. لكن بعودة الفهم تعود فاعلية القرآن في حياتنا اليومية لتعيد الأمة إلي ريادتها وسابق حضارتها. وكان من الناحية الفكرية شيئاً جديداً شديدَ الإبهار لهم.. فقد حول هذا الكتاب أمة من رعاة للغنم إلي أمة ترعي غيرها من الأمم؛ لا لشيء إلا أنهم كانوا يفهمونه ويفعلونه. فسيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما سمع سورة طه فهم أولاً، ثم انبهر بما فهمه، فكان لألفاظ القرآن ما يُشبه كيمياء الدواء التي تفاعلت مع عقول وأرواح الصحابه فأنتجت إنساناً جديداً وحضارة جديدة سادت الدنيا بالعلم. ونحن اليوم لا نشعر بهذه الكيمياء؛ لأننا لم نفهم شيئاً منه أصلاً.. ولو فهمنا القرآن فهماً صحيحاً لحدثت انطلاقات حضارية رائعة.. لا شك أننا بجهل منا وضعنا حواجز بيننا وبين القرآن.. وللأسف لا يوجد أحد من أولادنا يفهم القرآن فهو بالنسبة لهم مجرد طلاسم ومعادلات صعبة تستعصي علي فهمهم! وصار أكثرنا لا يفهم القرآن بسبب عدم فهم اللغة العربية كما كان يفهمها آباؤنا، والعلماء والمشايخ لا يقومون بعمل شيء فيه إبداع وابتكار لحل هذه الأزمة التي نعيشها اليوم، فكل ما يقدمه العلماء اليوم عبارة عن اجترار لما قدمه سلفنا الصالح في الماضي، وهذا وإن كان فيه الخير والعلم، إلا أن العلماء في كل عصر كانوا يواجهون مشكلاتهم المعاصرة لهم ويضعون لها الحلول في قالب علمي شرعي، وهذا ما نرجوه من علمائنا ومشايخنا أن يحذوا حذو سلفنا الصالح، فيقوموا بدراسة المشكلة التي طرحناها ويقدموا لها الحلول الإبداعية التي تسد الفجوة بين شبابنا وبين القرآن الكريم.. بإلحاح شديد يسألنا الشباب اليوم: إذا كان الله تعالي يقول: «ولقد يسرنا القرآن للذكر» فأين هذا التيسير ونحن لا نفهم القرآن عندما نستمع إليه أو نقرأه؟! ونحن نسأل أنفسنا اليوم: ما الذي فعلناه في القرن الحالي لتيسير القرآن.. وما الذي يمكن أن نقدمه في هذا المجال؟ لابد من التفكير بالعقل، فلتيسيره وتفصيله لابد أن نفهمه أولاً علي الوجه الذي أراده الله تعالي. إياك عزيزي القارئ أن تظن أننا أول الناس الذين يجدون صعوبة في فهم القرآن الكريم ومقاصده، فالقرون التي خلت من قبلنا أيضاً كانوا مثلنا، ولكنهم كانوا يبذلون الجهد لتيسير القرآن، فلابد من التجديد لفهم القرآن.. أو التجديد في فهم القرآن. إن الحاجة ماسَّة جدا إلي أن نعمل كما عمل الذين من قبلنا، فنبتكر الأفكار الجديدة؛ ليبقي القرآن سهل الفهم، فهناك عشرة تجديدات إبداعية أنتجها المسلمون علي مر التاريخ الإسلامي نتناولها في المقال القادم بمشيئة الله تعالي... وللحديث بقية