سؤال سألته لنفسي وانا اقرأ ما كتبه الاستاذ عباس محمود العقاد في سيرته الذاتية التي تضمنها كتابه «أنا» تحت عنوان «فلسفة الحب». وهو يري انه ليس الحب بالشهوة لان اي انسان قد يشتهي ولا يحب.. وقد يحب وتقضي الشهوة علي حبه وليس الحب بالصداقة لان الصداقة اقوي ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب اقوي ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين. وليس بالانتقاء والاختيار، لان الانسان قد يحب قبل ان يشعر بأنه احب.. وقبل ان يلتفت الي الانتقاء والاختيار.. وليس الحب بالرحمة لان المحب قد يعذب حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب، ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق. ويحلل الاستاذ العقاد ظاهرة الحب من مختلف الجوانب ليخلص من تحليلاته: أن خلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار ولا نختار حين تحب، واننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين تموت، لان الحياة وتجديد الحياة وفقد الحياة هي اطوار العمر التي تملك الانسان ولا يملكها الانسان. والعقاد الذي تحدث عن فلسفة الحب، وقع في الحب، كما سجل ذلك في روايته اليتيمة «سارة». وقد عبر عن فشله في الحب بقوله: وبكيت فيك كالطفل الذليل انا الذي ما لان في صعب الحوادث مقودي!! والذي يقرأ سير حياة كبار الادباء والشعراء والساسة، سوف يلاحظ ان في حياة هؤلاء الكبار بصمات الحب الذي وقعوا فيه في فترة ما من حياتهم. طه حسين صور ما مر به من مشاعر عندما التقي بسوزان الفرنسية والتي اصبحت زوجة له في مدينة مونبلييه بفرنسا بقوله: ان الحب لا يمل ولا يعرف الفتور، ولا يخاف الاخفاق، لكنه يلح حتي يظفر او يفني صاحبه». والاف المجلدات تتحدث عن الحب عندما يغزو القلوب، ولا يفرق الحب بين غني او فقير، او بين متعلم وجاهل.. وقال عنه الفقيه الاندلسي الشهير ابن حزم: الحب اعزك الله اوله هزل وآخره جد دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناة.. وليس بمنكر في الديانة.. ولا بمحظور في الشريعة اذ القلوب بيد الله عز وجل.. جاء ذلك في كتابه الشهير «طوق الحمامة». وكان الحب نقطة ضعف في حياة الكبار من المفكرين والفلاسفة والادباء والشعراء.. بل ان احد كبار الفلاسفة الالمان وهو فردريك نيتشة الذي كان ينادي بفلسفة القوة، ذهب ذات يوم الي ايطاليا، والتقي في روما بفتاة فنلندية جميلة اسمها « لوفون سالوم» فوقع في حبها، وعندما طلب منها الزواج رفضته.. كانت تعجب به فقط كفيلسوف كبير.. وعندما تزوجت بآخر قال الفيلسوف ساخرا: «اني لم اخلق العالم، ولا لوفون سالوم، ولو اني خلقتهما لكانا خيرا مما هما». انه يعبر بهذه الكلمات ليعزي نفسه عن فشله في الحب!! والغريب انه فقد عقله في اخريات حياته وظل عشر سنوات في احدي مصحات الامراض العقلية!! وما كتبه التاريخ عن العظماء وقصص حبهم التي كانت في نفس الوقت نقط ضعفهم لا حصر لها. وقد سئل يوما الفيلسوف الوجودي الشهير سارتر: وكان يرتبط بقصة حب مع الفيلسوفة والاديبة سيمون دي بوفوار.. سألوه: ما رأيك في سيمون كامرأة؟ فكان مما قاله: ان لها ذكاء رجل، وحساسية امرأة.. وقد تجدني في كلامي هذا عبوديا بعض الشيء. وقال ايضا: ولعلني وجدت في سيمون دي بوفوار كل ما استطيع تمنيه.. ولذلك لم نختلف الا علي بعض تفاهات!! وما أكثر ما في الحب من غموض، ويبرز من جديد هذا التساؤل.. هل للحب فلسفة؟.. ام انه مشاعر تنتاب اي انسان ويكون فوق الارادة.. وفوق العقل.. ومن الصعب الوصول إلي حقيقته! ولعل من اجمل ما قرأت عن الحب ما كتبه الروائي الكبير محمد عبدالحليم عبدالله في مقال له عن «الحب في ثيابه التنكرية» فيقول فيما قاله عن الحب وأثره علي الفن والادب. والحب يدخل من النوافذ ولكن لا يخرج منها.. ويدخل متلصصا متسلقا، ولكنه اذا ما اراد الخروج سمعنا تحطم الابواب المغلقة. يدخل نسيما ويخرج عاصفة. يدخل محتالا متلطفا ويخرج في ضجة لا تذكر الماضي.. لكنه في كل حال هو الحب. هو العذراء التي تخرج من الشرنقة الحريرية لتبدأ الدورة من جديد، وليس يخطر علي بالها انها ستموت مرة اخري في داخل شرنقة الحرير. ونأخذ نحن الحرير لنصنع منه اكثر ملابس الحسان سحرا، وننسي او لا يخطر علي بالنا ان الكائن الذي غزل هذا ما ت مدفونا فيه. وهكذا نأخذ نتاج الحب من ادب وفن كما نأخذ ذلك الحرير، ولا يمكن ان يخطر علي بالنا عدد ساعات الارق، ولا حبات الدموع التي كانت اشبه بمخاض الولادة لما نتمتع به من أدب وفن. الحب عند الصوفية والحديث عن الحب أو فلسفة الحب يقودنا الي الحديث عن اسمي انواع الحب، وهو الحب الالهي، ويتمثل هذا في التصوف. وقد قرأت اخيرا كتابا جميلا وهو كتاب «قصتي مع التصوف» لخالد محمد خالد من اعداد وتقديم محمد خالد ثابت عن دار المقطم للنشر والتوزيع يروي فيها المفكر الكبير قصته مع التصوف فيقول: ان من خلال تجربتي وقراءتي ابناء العارفين استطيع الهتاف بحقيقة تقول: التصوف أعلي مراحل التدين هذه حقيقة لإمراء فيها استخرجتها كما قلت من تجارب الافذاذ ومن تجربتي، ولئن كان اشق ما فيه قهر النفس فهو في الوقت ذاته اعذب واجمل واروع وامتع ما فيه. صحيح انه تحتمل مصاعب، وركوب متاعب، وظمأ الهواجر وتسهر الليالي في غير لهو أو اشتهاء.. ولكن «عند الصباح يحمد القوم السري» وكما قال الشاعر: يغلبني شوقي فأطوي السري.. ولم يزل ذو الشوق مغلوبا. والكتاب رحلة ممتعة حول المتصوفة أو اهل الله، يحكي احوالهم واشواقهم وحبهم لله جل علاه ويسوق لنا فيما يسوق من امثلة رائعة هذه الترنيمة الرائعة لابن عطاء الله: انه يقول: كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الذي اظهر كل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الذي ظهر بكل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في لكل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الظاهر قبل وجود كل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو اظهر من كل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو الاحد الذي ليس معه شيء. كيف يتصور ان يحجبه شيء، وهو اقرب اليك من كل شيء؟ كيف يتصور ان يحجبه شيء، ولولاه ما كان وجود اي شيء؟ ففي كل شيء ظهوره، وبكل شيء ظهوره، واظهر من كل شيء ظهوره، بل هو الواحد الذي ليس معه سواه، اذ لا وجود حقيقيا لغيره، ومن ثم فليس هناك ظهور حقيقي غير ظهوره، وليس هناك حضور حقيقي دائم غير حضوره. اذن فما بالنا نعيش عميانا عن الظهور، تائهين ضلالا عن هذا الحضور؟ ماذا يحول بيننا وبين شهوده؟ وماذا يحجبنا كل هذا الحجب عن رؤية وجوده؟ هو ذا يتم كلماته الهاوية فيقول: ما حجبك عن الله وجود موجود معه، بل حجبك عنه توهم موجود معه!! وتعيش مع الكاتب الكبير وهو يرسم لنا عوالم الصوفية ومواجدهم وحكمهم، وزهدهم في الدنيا، وبعدهم عن السلطة والسلطان، ويروي الكثير عن اخلاقهم وسيرهم.