أسامة عجاج ووالدتي رحمها الله ،كانت نموذجا للصبر والصمود، والقدرة الفائقة علي تحمل المشاق، ومصاعب الحياة كلنا نعرف أن عام الحزن في التاريخ الإسلامي، هو العام العاشر من بعثة النبي الكريم صلي الله عليه وسلم، وهي السنة التي توفي فيها أحب الناس إلي الرسول الكريم ،زوجته خديجة، وعمه أبو طالب، ومن منا من ليس له عام للحزن، أو مر بأيام حزينة، وقد ذكر الحزن في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها في سورة فاطر الآية 34 " الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن ". وفي سورة المائدة أية 41 "يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر". وفي سورة يوسف أية 84 " وابيضت عيناه من الحزن"، وفي الحديث الكريم " إنما أشكو بثي وحزني إلي الله".عندما آذي أهل الطائف الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، بعد رفضهم دعوته للدخول إلي الإسلام. كما أن الرسول بكي عند وفاة ابنه إبراهيم، وليس من ما لم يشعر بالحزن، ذلك الشعور الإنساني النبيل، نتيجة ظروف مختلفة ومتنوعة، منها فقد الأحباب والأصدقاء، وأنا من هؤلاء، رغم حرصي علي أن أحتفظ بظروفي الخاصة لشخصي، دون أن أفقد حاجتي الإنسانية، لمن يشد من أزري ،ويتعاطف مع مصيبتي ،ولكن قدرتي علي التحمل هذه المرة، كانت محدودة، مع تعاظم الحزن ،وضخامة التجربة. قضاء الله الأحد:
فقد أراد الله ولارد لقضائه أن نبدأ أول أيام العام الماضي، بمرض الموت لأمي، وتدخل المستشفي، حيث قضت هناك أكثر من ثلاثة أسابيع، حتي فاضت روحها الطاهرة إلي بارئها، ومر عام سيطر علينا، الشعور بالتيمم الحقيقي. ولأن الأحزان" مثل الطيور لا تأتي فرادي"، فلم تمر سوي أشهر معددوة، حتي زادت الأمراض علي شقيقي الأكبر طارق ، والذي توفي بعد عام وأسبوعين، من فقدان الوالدة، عليهما وعلي جميع موتانا رحمة الله ورضوانه، وطارق كان الأحب إليها، والأقرب لها من بين كل الأخوة ، أما بالنسبة لنا، فكان" عمود الخيمة "، أو "كريمة العائلة "، الذي يستحق كل افعل التفضيل في اللغة العربية، هو أكثرنا برا بوالدته، أكثرنا فعلا للخيرات، وحبا للناس. وكثيرا ما قلت له "أحبك حبين لأنك أخي، ولأنك تستحق أن تحب، ولو لم نكن أشقاء لأحببتك، ولو تعرفنا في الشارع أو العمل، أو جمعت بنا الأقدار في أي مكان، أو تحت أي ظروف، لكنت قد أحببتك، ولم تكن تلك مشاعري الخاصة، ولكنها لجميع من عرفه ،واقترب منه، واسألوا المصريين والعرب، في حي كوين بمدينة نيويورك ،وما أكثرهم هناك، حيث قضي معظم سنوات عمره، حيث مكتبه وعمله، في مجال المحاسبة والضرائب ،وهكذا في عام واحد فقدت الأم والأخ . الصبر والصمود الإثنين:
ووالدتي رحمها الله ،كانت نموذجا للصبر والصمود ،والقدرة الفائقة علي تحمل المشاق، ومصاعب الحياة. ترملت وهي في الثلاثينيات من عمرها، بعد وقفة عظيمة لزوجة عظيمة، استمرت لسنوات مع مرض والدي، الذي دخل في صراع معه طويلا، وكان عليها أن تواجه الحياة بمفردها، بخمسة من الأبناء الذكور، أكبرهم كان قد حصل للتو علي الثانوية العامة، ومعهم شقيقهم اليتيم، الذي تولت تربيته بعد وفاة والدته، وهو صغير، ونجحت في المهمة علي خير وجه، تخرج الجميع من الجامعات، من الكلية الحربية ،والتجارة، والإعلام، والعلوم ،والآداب، وكانت رغم تعليمها المتوسط، صاحبة ذكاء فطري ،وكثيرا ما كنت أقول لها ضاحكا "أن الذكاء الفطري أكثر خطورة، من المكتسب بالتعليم أو الخبرة "، استثمرت هذا الذكاء، في العبور بسفينة الأبناء إلي بر الأمان. بدون عثرات أو مشاكل واجهت الأولاد، وهم في مراحل الشباب الأولي، في غياب الأب، فقامت بالدورين معا. وتزوج الجميع، وتوالي الأحفاد ،ولكن سنوات الشقاء تركت بصماتها عليها، أمراضا ومعاناة، ولم يعد الجسم يحتمل المزيد، فأعلن الاستسلام في الساعات الأولي من العام الماضي في أول يناير، ولم تجد المحاولات المستميتة لعلاجها، بذل خلالها أطباء مستشفي الجلاء العسكري للعائلات، مجهودا جبارا ،ولكنها إرادة الله ومشيئته . وآخرها عمرة الثلاثاء:
وأتذكر أنني قبل وفاتها بأيام، كنت علي موعد مع تغطية صحفية، لمؤتمر القمة العربية الاقتصادية بالرياض .وأصابتني حيرة شديدة، مابين البقاء إلي جوارها، خاصة ان الحالة كانت مستقرة، ولكنها لم تتحسن ، كنا ندرك وفقا لشواهد كثيرة ، انه قد يكون مرض الموت، ولكن رجاءنا في رحمة الله كبير، أو السفر مع الخوف، من وفاتها أثناء وجودي بالرياض، وحسم الأمر نيتي لأداء العمرة لها، في طريق عودتي إلي القاهرة. وأصبح ذلك الهدف الأهم من الزيارة، وعشت ساعات من التوتر، لدرجة أنني يوم السفر ذهبت إلي المطار القديم، ظنا مني أن سفري علي الطائرة السعودية كالعادة، ولم أكن علي غير عادتي، قد تأكدت من كل الإجراءات والأوراق ،قبل أي سفر لي، وهناك عرفت أن السفر علي الطائرة المصرية، من المطار الجديد، والتي ستقلع بعد اقل من ساعة، فأسرعت في الوصول هناك ،وأنا أسابق الزمن للحاق بالطائرة، وعقلي يقول لي، لعل وجود تلك العقبات غير المتوقعة، مرتبط بضرورة وجودي بجانب والدتي ،خاصة ولم أكن أسامح نفسي إذا توفيت ،وأنا في الرياض. ولحقت بالطائرة في اللحظات الأخيرة ،ومنذ وصولي للرياض وشغلي الشاغل إتمام العمرة لها ، ولم تنقطع اتصالاتي، أكثر من مرة في اليوم الواحد ، بأخي الأكبر العميد هشام، وزوجتي للاطمئنان علي صحة الوالدة، وأنا أخشي من أي اتصال بي من القاهرة، يحمل خبر وفاتها، وبصعوبة ومعاناة، أتم الله نعمته علي وعليها، ويسر لي العمرة. رغم الزحام الشديد علي رحلات الطيران الداخلي، وعدم وجود تذاكر من الرياض إلي جدة، حيث كنا في إجازة نصف العام، وكثيرمن الأسر السعودية والمقيمين، يؤدون العمرة في تلك الأيام، استثمارا طيبا لإجازة نصف السنة، ووصلت إلي مكة بعد منتصف الليل بقليل، وأديت العمرة لها، ودعيت لها ، وحمدت الله علي نعمة إتمام العمرة للحاجة والدتي، وصليت الفجر وعدت إلي الفندق، لأنام ساعات قليلة ،استعدادا للعودة من جديد ،إلي الحرم المكي لأداء صلاة الظهر ،وبعدها غادرت إلي جدة للحاق بالطائرة، عائدا للقاهرة، وفي الطريق وقبل دخولي المطار، دق هاتفي المحمول ،وكان أخي علي الطرف الثاني، يحمل لي خبر الوفاة ،ولا ادري كيف مرت علي الساعات؟ ومشاعر متناقضة تجتاحني، بالحزن علي فقدان اعز الناس، والفرحة بأن وفاتها توافقت مع أداء العمرة ،وكان آخر جزاء لها في الدنيا ،هو ثواب أداء العمرة، دون أن ينقص ذلك من ثوابي شيئا ، وعندما كانت تعاني من سكرات الموت، كنت أنا في اشرف بقاع الأرض، متضرعا إلي الله، داعيا له، مستجيرا به، أن يخفف عنها، وكانت مدة الأسابيع الثلاثة، فرصة لكل أخواتي المقيمين في نيويورك، عبدالمنعم وخالد لزيارة الحاجة الوالدة ورؤيتها قبل الوفاة أما طارق وكان في القاهرة في إجازة سريعة، وهو من قام بنقلها إلي المستشفي، مع أخي الأكبر هشام، ولأننا أسرة متدينة مثلنا ككل المصريين فقد قبلنا بقضاء الله وقدره ، حمدنا الله علي نعمه، ودعونا لها أن يتغمدها برحمته. الشوق لمن تحب الأربعاء:
"ولأن الأحزان لا تأتي فرادي"، فقد مرت الأيام صعبة، ثقيلة حزينة، فالشعور باليتم الحقيقي، لأتعرف به سوي بعد فقد الأم، حتي لو كنت كبيرا ،أبا أو جداً، فقد كان منزلنا ،حيث تقيم الوالدة، هو المكان الذي تلقي فيه بهمومك، وأحزانك، وتعبك ،وكان أخي طارق أكثرنا حزنا ،علي فقدان الوالدة الغالية، التي قضت سنواتها الأخيرة معه، في شقته القريبة من مكتبه ،في حي كوين بنيويورك، أو في إجازة آخر الأسبوع مع أولاده، في "لونج إيلاند" والتي تبعد ساعة بالسيارة عن نيويورك ، وهو نموذج فريد ومميز منذ صغره، فقد عرف بين الجميع، بالشقاوة المحببة للأطفال، وكان عاشقا للسفر، ومحبا للعمل بالخارج ،وذهب خلال إجازة الصيف أثناء دراسته الجامعية ،للعمل بالسعودية، ويومها عاد كما لو كان أبا صغيرا، يحمل الهدايا لإخوته ولأمه ،ولم تفارقه فكرة العمل بالخارج، فبعد أشهر من تخرجه من كلية التجارة، جاءته فرصة السفر إلي أمريكا، ويومها بدأت رحلة الاغتراب عن الوطن، ولأنه كان عاشقا للنجاح ،فقد تجاوز الكثير من المصاعب والتحديات، وأقلها يوم وصوله إلي نيويورك، كيف قضي ليلته الأولي؟ وكيف بدأ رحلة البحث عن عمل؟ وكان عامل ديليفري، ولكنه تحدي الظروف ،وواجه كل المصاعب، والتحق بالدراسات التي تؤهله للعمل في مجال المحاسبة، حتي عين موظفا في بلدية نيويورك، ولم تمر سوي سنوات قليلة حتي استقال من عمله ،لإقامة مشروعه الخاص، والعمل في المحاسبة، من خلال بيته الذي حوله إلي مكان للعمل والإقامة، مستعينا بزوجته الأمريكية شيلا، التي كانت خير عون له، في الغربة، وساعدته علي النجاح والتقدم، حتي استقل بمكتب خاص به، يمارس من خلاله عمله في التأمينات والضرائب، وساعده شقيقاه الأصغر، بعد أن وفر لهما، وسهل لهما السفر والإقامة في نيويورك، وتوسع العمل بفضل نشاط الجميع، وحب الزبائن لصاحب المكتب، الذي يتميز بالتواضع، والأمانة ،وحسن معاملة الجميع ساعة الرحيل الخميس:
ولم تمر سوي عدة أشهر، بعد وفاة والدته، حتي تراكمت عليه الأمراض، واعتاد الذهاب إلي المستشفي، خلال فترات بسيطة، وأصبح من الضروري إجراء عملية زرع كبد له ،بعد أن نقل معه من فترات الشباب البلهارسيا ،وفيروس سي. وهي عملية مجربة أجراها وبنجاح باهر المئات من المصريين الذين نعرفهم في منطقة كوين بنيويورك، مع تقدم وسائل العلاج، ومثل هذه العمليات تخضع لتنظيم صارم ،وترتيبات دقيقة، وتتوقف علي جدول، يتم فيه تسجيل الحالات الحرجة، والأكثر احتياجا، من متبرعين ينصون علي ذلك في وصاياهم،أو عند استخراج رخصة قيادة السيارة، حيث يتم وضع صورة للعضو المتبرع به علي الرخصة، للتعامل وبسرعة متناهية ،إذا كانت الوفاة في حادث من حوادث الطرق ، خاصة ان هناك تجريما صارما لتجارة الأعضاء. وهو ماتم بالفعل في أكتوبر الماضي ،عندما تطابقت التحليلات الخاصة به، مع كبد تم توفيره ،وأجري العملية التي نجحت بصورة كبيرة، وقد وصلت من القاهرةلنيويورك، في اليوم التالي لإجراء العملية ،للاطمئنان عليه، وقضيت هناك عدة أيام، لم أري مانهاتن سوي من خلف زجاج السيارة ،التي تقلني يوميا إلي المستشفي ، ولكن استمرار المرض لفترات طويلة ،اثر بالسلب علي أجزاء أخري من الجسم، ومنها الكلي وغيرها، واستمر في غرفة العناية المركزة لشهور، حتي لقي ربه، وتم دفنه هناك، بعدما أوصي بذلك، واشتري مقبرة منذ سنوات في مدافن المسلمين، وكانت جنازته مهيبة كما قال لي إخوتي شارك فيها أحبابه وأصدقاؤه، وكان مسجد الإيمان وهو وإخوته من رواده خاصة في صلاة الفجر كما لو كان يوم جمعة من كثرة المشيعين.. رحم الله جميع موتانا وأسكنهم فسيح جناته