»تمنت شريفات مكة وجميلاتها زواج عبدالله والد محمد »صلي الله عليه وسلم«.. وفازت آمنة بنت وهب بالأنوار ولم يدم زواجهما سوي عشرة أيام« كانت حياة سيدنا ابراهيم سلسلة طويلة من الكفاح ومحاربة الملوك وعبدة الاصنام لنشر رسالة التوحيد.. في العراق وقف أمام قومه وهدم اصنامهم وتحدي ملكهم »النمرود« الذي لم يكتف بالملك بل ادعي الالوهية وامر شعبه ان يعبد تمثاله.. وبعد ان اهتز النمرود من معجزة خروج ابراهيم عليه السلام من النار التي ألقاه فيها قومه وخوفه من ايمانهم به اخذ النمرود يضيق علي ابراهيم عليه السلام حتي اضطره لترك مدينته »أور« والفرار منها ومعه زوجته سارة الرائعة الجمال وبعض من امنوا به.. الي ارض الشام.. واستقر في فلسطين بعد عناء سفر شاق طويل تحملته معه زوجته الجميلة سارة، يدعو الي عبادة الله الواحد الاحد قوما يعبدون النجوم والكواكب والاصنام.. وحاول ان يقنعهم بالعقل والمنطق والحجة بأن الشمس والقمر والنجوم تغيب والغياب ليس من صفات الخالق.. اذن فهي ليست جديرة بالعبادة.. لم يقتنعوا وعاندوا وقاوموا فقرر الرحيل الي مصر خاصة بعد ان انتشر الجفاف والقحط في ارجاء الشام وكانت سارة بصحبته متحملة مشاق السفر.. وفي مصر تحدث الناس عن جمالها الاخاذ وحسن أخلاقها.. وكان ملك مصر مستبدا ظالما مشركا يعبد الاصنام مثل قومه وأكثر أهل زمانه، ووصل الي سمعه ما يتناقله شعبه عن جمال سارة فقرر ان يستولي عليها لنفسه فأرسل في طلب ابراهيم عليه السلام وسأله عن علاقته بسارة وادرك ابراهيم انه لو اخبره بأنها زوجته فسيقتله ليختصها لنفسه، فادعي انها شقيقته مطمئنا الي ان الله قادر علي حمايتها ورعايتها كما انقذه من جحيم النار التي قذفوه فيها فأمر الملك رجاله باحضار سارة وكان ابراهيم حكي لها ما حدث وطمأنها بان الله سيحفظها تأكيدا لقوله »الله ولي الذين امنوا« واخذها اعوان الملك عنوة وذهبت معهم مستسلمة لامر الله. وفي القصر حاول الملك الاقتراب منها ففوجيء بما لم يتوقعه، كلما اقترب منها انتابته رجفة ورعشة وتملكه الخوف والفزع وتذهب كل تلك الاعراض حين يبتعد عنها.. وعندما آوي الي فراشه وراح في نوم عميق جاءه هاتف يأمره بالابتعاد عن سارة وتكرر ذلك حتي ادرك الملك انه امام امر خارق للعادة فقرر إطلاق سراحها وإعادتها الي ابراهيم ومعها هدية تليق بها فوهبها هاجر التي عادت مع سارة الي ابراهيم وكان قرر العودة الي فلسطين وعاد تصحبه زوجته سارة وجاريتها هاجر وابن اخيه لوط.. لكن سارة الفائقة الحسن المحبة لزوجها والتي تحملت معه مشاق الرسالة، كانت عقيما لا تلد محرومة من نعمة تتمناها كل امرأة وزوجها، وتمر الاعوام وتري سارة زوجها امامها يتمني من الله طفلا وهو صابر ومحتسب، وتهتدي سارة الي حل للمشكلة يحتاج منها الي تضحية لا تقدر عليها امرأة عادية فهي تضحية كبيرة غير عادية وهي ان يتزوج حبيبها ورفيق عمرها من امرأة اخري، فأشارت عليه ان يتزوج من هاجر المعروفة بحسن الاخلاق والادب الجم، ويتزوج ابراهيم من هاجر وينجبان ابنهما اسماعيل وتتحول هاجر من جارية الي زوجة وام لأول ولد لنبي الله ابراهيم بعد ان ضحت سارة لتحقق حلم ابراهيم عليه السلام.. لكنها وهي امرأة لم تستطع ان تقاوم مشاركة امرأة اخري لها في زوجها خاصة بعد ان انجبت له.. حقيقة انها هي صاحبة الفكرة لكنها بشر وحققت هاجر ما كانت تتمناه سارة التي ملأت الغيرة قلبها فطلبت من نبي الله ابراهيم ان يبعد عنها هاجر وابنها ولم يكن امام الخليل إلا ان ينفذ رغبتها فرحل مع هاجر واسماعيل الي حيث شاء الله ان يذهب الي واد مقفر مرعب لا زرع به ولا ماء ولا احياء ولا عمران او بناء.. وادي »فاران« بمكة وهو مكان الكعبة التي استكمل بناءها ابراهيم واسماعيل.. وترك ابراهيم زوجته وابنه الوحيد بعد ان زودهما بقليل من الماء والطعام وتركهما في رعاية الله وحدث بينهما الحوار المعروف، والمفيد لنا ان نستفيد من هذه الملحمة فسارة كانت عنوانا للتضحية والايثار عندما قامت بنفسها بتزويج ابراهيم عليه السلام حتي يستطيع الانجاب ويهنأ بالولد وهاجر المرأة العظيمة، المؤمنة، القوية اعطت البشرية كلها درسا مفيدا في حياتنا مليئا بالسعي والكد والعمل والتعلق بالاسباب والخضوع لامر الله والايمان برحمته وعدله فهي تمتلك نفسا مؤمنة وعقلا راجحا مكناها من الاستقرار وتعمير الصحراء الجرداء.. سعت بين الصفا والمروة حتي تفجر الماء تحت اقدام اسماعيل، ويحميها ايمانها وصبرها من كيد الشيطان، لم ترفض ما طلبه منها نبي الله ابراهيم تنفيذا لامر الله بذبح اسماعيل.. »وفديناه بذبح عظيم«. ذات يوم زار سيدنا ابراهيم بمنزله غرباء قدم لهم الطعام فأعرضوا عنه وطمأنوه انهم ملائكة مرسلون من رب العالمين وبشروه بغلام عليم وتعجب ابراهيم فكيف له وهو شيخ بلغ المائة وعشرين عاما وزوجته سارة اتمت عامها التسعين كيف لهما ان ينجبا غلاما وتحققت البشري وولدت سارة اسحاق عليه السلام كانت معجزة لكنها مكافأة من الله تعالي علي صبرها ومساندتها لزوجها نبي الله بنفس كريمة راضية. عبدالله وجميلات مكة! استوقفت »بنت نوفل« عبدالله والد النبي [ في الطريق وقالت له: يا عبدالله تعرف انني فتاة شريفة طاهرة فائقة الحسن والجمال واري في وجهك انوارا تتلألأ، تنبيء ان سيكون من نسلك مولود عظيم.. اشكرك يا بنت نوفل، لكن ماذا تريدين مني؟.. اريد ان اتزوجك حتي افوز منك بتلك الانوار، اجابها: لقد خطب لي ابي »آمنة بنت وهب« وتنصرف بنت نوفل عنه غاضبة تردد: فازت آمنة بالانوار.. فآمنة ابوها وهب بن عبد مناف، كان سيدا في قومه لما له من مكانة عالية ونسب كريم وشرف اصيل وعبدالله ابو النبي من اكبر القبائل العربية واعظمها قوة وبأسا وأمجدها حسبا ونسبا. ابوه عبدالمطلب بن هاشم سيد قريش وعظيمهم وامير مكة المطاع.. حارس الكعبة وحاميها والمشرف علي سقاية الحجاج وكان بين الاسرتين ود وتحالف وحسن جوار، وحين كان عبدالله في السابعة وآمنة في الخامسة كانا يلعبان يصعدان فوق التلال الصغيرة المحيطة بمكة ونشأت بينهما الالفة والمودة.. وبلغت آمنة الثامنة وحجبها اهلها في المنزل ولم تعد تري عبدالله او يراها وتصل اليها اخباره عن طريق الجواري والخدم انه زين شباب مكة تتطلع اليه الانظار وتهفو اليه الرغبات وكم ودت آمنة ان تراه كما يراه غيرها فقد شهدت معه الطفولة البريئة التي تربط القلوب بأصفي انواع الالفة والمحبة والاخاء فقنعت ان تسمع اخباره ولا تراه وان تعيش معه في احلام الطفولة وذكريات الماضي البعيد. وتشاء الاقدار ان يخطب عبدالمطلب آمنة لتكون زوجة لعبدالله.. ويجمع عبدالمطلب شيوخ قريش وساداتها ويسيرون الي دار وهب بن عبد مناف لاتمام الزواج، وتحتضنها امها بَرَّة وتسر في اذنها: سعادة طرقت بابنا يا ابنتي ومجد سيتوج رأسك مدي الحياة، خطبك عبدالمطلب سيد مكة لابنه عبدالله سيد الشباب وتلتصق آمنة بصدر امها في شبه ذهول وسعادة وتدخل قريبات آمنة يهنئنها: فزت بشاب حباه الله نعمة الطهر والعفاف.. والجمال والكمال.. كل فتاة في مكة تتمني ان تفوز به.. كان عبدالله في الثامنة عشرة يخصه ابوه بحب عميق وعطف كبير.. كان جميلا انيقا متوسط الطول معتدل القامة ذا وجه جميل تشع منه انوار متألقة وفي عينيه ضياء رباني ينبيء عن روحه الرفيعة وقلبه الكبير واحساسه الطاهر كان اذا مشي في طرقات مكة اتجهت إليه كل الانظار تتأمل جماله ورقته وخشيته وتواضعه وادبه وكماله.. تعترض طريقه بعض فتيات مكة من الاسر الشريفة يحيينه.. وكانت آمنة في السادسة عشرة من عمرها تعلق قلبها بعبدالله منذ الطفولة.. واقيمت الزينات والافراح ونحرت الذبائح ومدت الموائد ووزعت الهدايا والهبات واقام عبدالله ثلاثة ايام في دار زوجته كعادة العرب ثم انتقل بها الي داره يتبادلان مشاعر الحب والاخلاص. وذات صباح روت آمنة لعبدالله حلما عجيبا.. رأت كأن انوارا تخرج من بطنها فتضيء الدنيا.. رأت فيها قصورا وحدائق غناء وسمعت هاتفا يقول: لقد حملت بسيد هذه الامة.. وفي اليوم العاشر من الزواج طلب عبدالمطلب من ابنه عبدالله ان يستعد للسفر مع القافلة الي الشام وتصرخ آمنة: اي سفر يا ابي وخضاب الزواج مازال في كعبي؟ قال: انها التجارة التي نعيش منها يا آمنة. وحان يوم السفر الذي هو يوم الفراق ويتعلق كل بصاحبه لا يريد عنه فكاكا.. ويضم عبدالله زوجته الي صدره الضمة الاخيرة ويخرج اسفا حزينا وتسقط آمنة مغشيا عليها، أضناها الحزن والبكاء والسهر والتفكير في زوجها الحبيب، وذات صباح قالت لخادمتها انني اشعر بالحمل بلا وجع ولا ثقل كما تحس النساء وعاشت تنتظر عودة المسافر الحبيب.. وتعود قوافل التجارة الي مكة لكن عبدالله لم يعد ويملأ القلق آمنة ويهدئها عبدالمطلب بانه في زيارة اخواله »بني النجار« بالمدينة، لكن عبدالله لا يعود ويزداد حزن آمنة وبكاؤها وسهرها ويخاصمها النوم وتهتف باسم زوجها في رائعة النهار وظلام الليل ويساور القلق عبدالمطلب ويرسل ابنه الحارث الي المدينة ليعلم ان عبدالله مات ووقع الخبر علي آمنة كالصاعقة فراحت في غيبوبة طويلة ولبست مكة كلها السواد حدادا واقيمت المنادب والمآتم حزنا علي زينة قريش وفخر شبابها.. وعاشت آمنة في حزن مقيم لكن شعورها بان ما في بطنها قطعة من عبدالله ألهمها الصبر والعزاء.. وذات صباح وهي في الشهر السابع من حملها اخبرها عبدالمطلب الاستعداد للخروج من مكة والاقامة في الجبال »فأبرهة الاشرم« ملك صنعاء جاء بجيش كبير لهدم الكعبة وترد آمنة: لا تخف يا ابي فللكعبة رب يحميها.. لن يستطيع ابرهة ان يدخل مكة وسوف يخرج من بطني من يبدد الظلم وينشر النور.. لقد سمعت هاتفا في المنام يناديها بانها حملت بسيد البشر وسوف تلد نبي هذه الامة، ويرسل الله طيرا يحمل في ارجله حجارة مسمومة أسقطها علي جيش ابرهة فأهلكه وبرك الفيل ولم يتحرك ولما ضربوه بالحديد في بطنه قام لكنه سار عكس الكعبة.. وفي فجر ليلة اثنين شعرت آمنة ان الجنين يريد الخروج الي الدنيا ونامت لا تحس وجعا لكن انوارا تحيط بها وبعض النساء يلبسن البياض يحطن بها في صمت وجلال كالملائكة جمالا وطهرا وبهاء ولم يكن في الدار سوي خادمتها »بركة« وخرج المولود وعلي وجهه ضياء السماء وفي شفتيه بسمات الرضا وسألت آمنة بركة: هل رأيت حولي نساء يلبسن ابيض؟ لا يا سيدتي، انما أنوار بيضاء وسمعت ما يشبه الاغاني والاناشيد حتي خرج الوليد فلم اعد اري او اسمع شيئا.. وتخبر آمنة انها سمت المولود »محمدا«.. ليس هذا من اسماء العرب!.. سمعت الهاتف يقول: ستلدين محمدا.. ومرت سنوات اربع تري آمنة في محمد نعيم الدنيا وآمالها وتحس في يتمه احزان الدنيا وآلامها ويسأل الطفل امه: اين ابي يا اماه؟ سؤال مزق قلب الام وفتت كبدها وتتماسك وتجيب: في سفر يا ولدي وتشتعل الذكريات في قلبها ويطغي عليها الحنين لزيارة قبر زوجها بالمدينة حيث دفن في قبور اخواله بني النجار وذات صباح كانت ومعها محمد وبركة بين قافلة تجارة الي الشام متجهة الي المدينة ووصلتها ولزمت قبر زوجها أربعين يوما تندبه وتبكيه حتي انهكتها شدة الحزن وكثرة البكاء وعزمت علي العودة وفي طريقها الي مكة اصابتها حمي شديدة وتخلفت عن القافلة عند قرية »الابواء« وخادمتها تمرضها هي وسيدة عجوز من سكان القرية ونظر الطفل الي امه والحمي تفتك بها واجهش بالبكاء الذي تسرب الي اذنها ففتحت عينيها قليلا واحتضنت طفلها بعنف خشية ان تفارقه واحتضن الطفل امه وزاد نحيبه وولولت بركة فقد أرسلت آمنة النفس الاخير وبين الوحدة وصمت الصحراء الرهيب حفرت بركة للجثمان قبرا في الرمال بللته بالدموع وكأنما أبت آمنة إلا ان تموت بجانب زوجها، رحمك الله يا آمنة يا نموذج الوفاء والحنان والفداء للزوجة والولد.. ورجعت بركة بالطفل اليتيم وسلمته لجده عبد المطلب فكان له الام الحنون والاب الرحيم والحبيب الوفي.