يعيش العالم بأسره اليوم في حداد على وفاة واحد من الرموز التي تحظى بأكبر قدر من الإحترام والتبجيل والحب في مختلف أنحاء المعمورة. فقد تلقت أسرة كرة القدم العالمية ببالغ الأسى وعميق الحزن نبأ رحيل نيلسون مانديلا، وهي تستحضر إسهاماته الجليلة وشغفه الكبير. وبالنسبة لرئيس FIFAجوزيف س. بلاتر، الذي أصبحت تربطه صداقة حميمة وثابتة بالراحل مانديلا أثناء التحضيرات التي سبقت إقامة كأس العالم FIFAلأول مرة في أفريقيا عام 2010، فإنه يستحضر عدداً لا يحصى من ذكريات هذا الرجل الذي حمل رسالة السلام والمصالحة ليوحد بها بلداً كان يئن تحت وطأة التقسيم على مدى عقود من الزمن. وقال رئيس FIFAبلاتر متأثراً: "بحزن شديد أتقدم باحترام كبير لشخص غير عادي وربما أحد أعظم الأشخاص في وقتنا وصديق عزيز بالنسبة لي: نيلسون روليهلاهلا مانديلا. لقد تشاركنا معنا بإيمان كبير في القوة غير العادية لكرة القدم من أجل توحيد الناس في السلام والصداقة وتعليم المبادئ الإجتماعية والقيم التعليمية كمدرسة للحياة." وأضاف: "عندما تم تكريمه وشجعه الحاضرون في ملعب سوكر سيتي بجوهانسبرج يوم 11 يوليو/تموز 2010، كان رجلاً من الشعب، رجلاً لقلوبهم، وكانت إحدى أكثر اللحظات المؤثرة التي مررت بها. بالنسبة له، كأس العالم في جنوب أفريقيا كانت 'حلماً أصبح حقيقة.‘ نيلسون مانديلا سيبقى في قلوبنا إلى الأبد والذكريات المتعلقة بمكافحته للإضطهاد وجاذبيته التي لا تصّدق والقيم الإيجابية ستعيش فينا ومعنا." وبينما يستحضر العالم سيرة مانديلا، يتذكر عشاق كرة القدم بكل تأكيد تلك اللحظة العاطفية التي ظهر فيها هذا الزعيم الدولي الشامخ وهو يرفع عالياً أغلى لقب بين ألقاب الرياضة الأكثر شعبية في العالم. فبعد دقائق معدودة من منح جنوب أفريقيا شرف استضافة كأس العالم 2010 FIFAفي مايو 2004 ، شق نيلسون مانديلا المشحون بالعاطفة طريقه إلى المنبر في زيوريخ، فرفع كأس العالم FIFA، وفي واحدة من اللحظات التلقائية التي ميزت حياته، ذرف دمعة مصحوبة بابتسامة عريضة. لقد كانت تلك لحظات عاطفية للرجل الأسطوري الذي سعى بلا كلل ولا ملل من أجل نيل بلاده حقَّ استضافة أبرز مسابقة كروية على الإطلاق. كان ماديبا، كما يُعرف تحبباً (اسمه القبَليّ)، رجلاً تتجاوز جاذبيته حدود الأعراق وألوان البشرة والأديان والجنسيات. وفي بلاده، يُعتبر رمزاً قوياً للأمل، والسلام، والصَفح والمصالحة. قبل 24 ساعة من التصويت في زيوريخ، قال ماديبا من على المنبر للمندوبين ولأعضاء لجنة FIFAالتنفيذية الأربعة والعشرين إن استضافة كأس العالم ستكون بمثابة "حلم تحقق" بالنسبة إليه وإلى أبناء أفريقيا عموماً. وكان ذلك تصريحاً جريئاً من رجل ضحّى بالكثير، وهو الذي أمضى نحو ثلاثة عقود في السجن فداءاً لوطنه. وقال مانديلا في هذا الصدد: "عندما كنا في جزيرة روبن (حيث السجن) كان الراديو منفذنا الوحيد إلى أي بطولة لكأس العالم FIFA. وكانت كرة القدم مبعث الراحة ومنبع الفرح الوحيد للسجناء. من خلال كرة القدم نستطيع أن نحتفي بالإنسانية في الطرف الجنوبي للقارة الأفريقية ونتشاطر ذلك مع بقية أنحاء القارة والعالم." و لفهم مغزى كلماته وعمقها في تلك اللحظة بالذات، يتعين على المرء أن ينظر إلى الطريق الذي سار عليه ماديبا طوال حياته. فقد اكتسبت مشاهد خروج الرجل الذي غزا الشيب شعره من سجن فيكتور فيرستر الشهير بعد احتجاز استمر نحو ثلاثة عقود، هاتفاً بشعار كفاحه "أماندلا" (السلطة للشعب)، صفة الأسطورية على الفور تقريباً. وكانت تلك الصور الأولى لرجل كان حتى ذلك الوقت معروفاً فقط باسمه ولم يره الناس لمدة 27 عاماً. ولّعل تلك السنوات من العمل اليدوي المستمر في مقالع الحجارة في جزيرة روبن، والليالي الموحشة في الزنزانة الإنفرادية، هي التي ساهمت في تشكيل رؤية مانديلا. فعندما خرج من الأسر رسّخ حياته لإعادة بناء بلاده التي دمّرها الفصل العنصري، وبدل التحريض على الحرب نادى بالسلام، وعوض الدعوة إلى الإنتقام نطق بكلمات المصالحة. وُلد نيلسون روليهلالا مانديلا في 18 يوليو 1918 في مقاطعة كايب الشرقية، وتحديداً في قرية مفيزو، على مسافة بضعة كيلومترات من أقرب مدينة، مثاثا. وأمضى سنوات عمره المبكرة في كونو، وهي قرية صغيرة أخرى متاخمة لمدينة مثاثا في ترانسكاي السابقة. ولأنه نشأ في ظل قوانين الفصل العنصري القمعية، أدرك مانديلا بسرعة أنه سيكرّس حياته لتحرير شعبه من الإضطهاد. وبدأ المحامي الشاب يقود كفاحاً شعبياً، بما في ذلك "حملة التحدي"، وهي إحدى أولى حركات المقاومة غير العنفية التي تصدّت لقوانين المرور العنصرية. لم يطُلْ الوقت كثيرا حتى استرعى مانديلا انتباه السلطات، فاعتُقل عام 1962 وأودع السجن لمدة خمس سنوات. وكان ذلك اللقاء هو الأول له بجزيرة روبن، ذلك المكان الذي تحوّل إلى "منزله" لنحو ثلاثة عقود من الزمن. وخلال وجوده خلف القضبان سيقت ضدّه وضدّ ناشطين سياسيين آخرين تهم جديدة بالتخريب ضد الدولة، علماً أن عقوبتها القصوى كانت تصل حد الإعدام. والواقع أن الضغوط الدولية المتنامية والتظاهرات التي سارت في أنحاء عدة من العالم هي التي أنقذته ورفاقه من حبل المشنقة، فحُكم عليهم بالسجن المؤبّد في جزيرة روبن القاسية. وهذه البقعة من اليابسة هي جزيرة في المحيط الأطلسي تقع على مسافة بضعة كيلومترات من مدينة كايب تاون، وقد خصصتها السلطات آنذاك لاحتجاز من كانت تعتبرهم "أعداء الدولة." استخدم مانديلا حصيرة سريراً له، وغطاءاً رقيقاً ليتقي رياح المحيط الهادئ الباردة وإسمنت السجن القاسي، حيث تذكًر في كتابه "رحلتي الطويلة إلى الحرية": "كانت جزيرة روبن من دون شكّ المركز الأقسى وقبضة الحديد لنظام العقوبات في جنوب أفريقيا. كانت مكاناً للمعاناة ليس للسجناء فحسب بل للعاملين في السجن أيضاً. هناك واجهنا واقعاً يقضي بأن الحياة ستكون قاتمة على نحو بائس. خلال تلك السنوات الطويلة والموحشة تحوّل توقي إلى حرية شعبي توقاً إلى حرية كل الشعب، بيضاً وسوداً. لقد أدركت تماماً أن الظالم إنما يحتاج أيضاً إلى التحرير، شأنه شأن المظلوم. إن الإنسان الذي يسلب حرية إنسان آخر هو سجين الكراهية، هو سجين قضبان الحكم المسبق وضيق الأفق." بينما اشتدّ طوق الضغط الدولي والعزلة الرياضية – بما في ذلك الحظر الذي فرضه FIFAعلى جنوب أفريقيا – حول حكومة الفصل العنصري، بدا التغيير آتيا لا محالة. وفي 2 فبراير 1990 فاجأ رئيس جنوب أفريقيا فريديريك دبليو دي كليرك العالم بإعلانه إطلاق سراح نيلسون مانديلا بعد 27 عاماً في السجن. وبعد بضعة أيام، وتحديداً في 11 فبراير ، خرج مانديلا من سجن فيكتور فيرستر. وفي مؤتمره الصحفي الأول، تكلّم بشغف كبير عن حاجة بلاده إلى الوحدة داعياً إلى المصالحة. وكانت هذه العملية كفيلة بلأم الجراح العميقة التي خلّفها ظلم نظام الفصل العنصري. وبعد أربع سنوات من ذلك، تقلّد مانيلا منصبه كأول رئيس منتخب ديمقراطياً في جنوب أفريقيا. وبعد ولايته الأولى، انسحب من السياسة وأعلن تقاعده. ولكن بدلاً من أن ينكفئ إلى منزله في قرية كونو الريفية، واصل مانديلا العمل من أجل تحسين مستوى معيشة أبناء شعبه، وبالطبع من أجل جلب كأس العالم FIFAإلى ذلك الطرف من القارة الأفريقية. عندما وصلت تلك اللحظة أخيراً، وعلى الرغم من تدهور صحته ووفاة حفيدته المأساوية عشية انطلاق البطولة، حرص مانديلا - وهو في الثانية والتسعين من العمر - على ترك آخر بصماته في هذا الحدث البارز في تاريخ جنوب أفريقيا. فقبيل انطلاق المباراة النهائية، كان ماديبا بطل واحدة من أكثر اللحظات عاطفية ومن أبرز الصور الخالدة في تلك البطولة، إذ نزل إلى أرض الملعب لإلقاء التحية على المشجعين الذين تجمعوا في ملعب سوكر سيتي بمدينة جوهانسبرج، حيث حظي الزعيم باستقبال الأبطال. ففي يوم الختام وإسدال الستار على النهائيات، كان من الطبيعي أن تُسلط الأضواء على هذا الرجل الذي بذل الغالي والنفيس لجلب البطولة إلى جنوب أفريقيا. وبينما نلقي عليه تحية الوداع الأخير، لا يسع أسرة كرة القدم إلا أن تتقدم لمانديلا بأصدق عبارات الشكر والإمتنان. فقد كان نموذجاً ومثالاً يُحتذى وترك إرثاً دائماً لهذا العالم.