في عام96 بدأ مجموعة من الفنانين التشكيليين حربا فريدة من نوعها في حي كوم غراب لفرض الجمال بقوة الريشة والألوان وكان هدفهم من هذه التجربة هو لفت أنظار الحكومة إلي إمكانية تطوير وتجميل المناطق العشوائية بالجهود الذاتية وبأقل التكاليف ولكن الفكرة شأن كل الأفكار الفريدة واجهت في البداية اعتراضات ومعوقات واعتبرها البعض نوعا من التقليد الأعمي للغرب هدفه تحقيق أغراض شخصية إلا أن مجموعة الفنانين لم تلتفت لذلك ومضت في طريقها لمسح القبح من علي وجه الحي ومع تباشير ظهور الجمال بدأ الأهالي يدعمون التجربة وبالفعل تحول حي غراب الي تحفة فنية آنذاك.. ولكن للأسف فقد عادت يد الإهمال لتمتد الي المكان وتمسح كل مافيه من روعة وإبداع ومع وصول عدد القاطنين بالحي حاليا الي أكثر من30 ألف نسمة تحولت التجربة إلي مأساة والحلم الي كابوس وطار الجمال من حي غراب للأبد قبل أن يصدر قرار رئيس الوزراء بإزالة الحي بأكمله ضمن خطة تطوير العشوائيات. وقبل أن تمتد معاول الهدم للمكان حرص الأهرام المسائي علي تسجيل اللحظة وإلقاء الضوء علي تجربة فريدة تجاهلها المسئولون دون مبرر مع سبق الإصرار والترصد.. لتبقي مجرد تجربة ذاتية لأصحابها.. السطور التالية تحمل توصيفهم لها ورأيهم فيها قبل أن تصبح ذكري للأبد. سر المغامرة في البداية توجهنا الي الفنان محمد عبلة فنان تشكيلي وأحد المشاركين في التجربة لمعرفة سر اقدامه علي هذه المغامرة وتقييمه لها؟ فقال: وقع الاختيار علي منطقة كوم غراب بوصفها حيا عشوائيا القاطنون به مهددون بالطرد في أي لحظة لانهم انتزعوا الأرض بوضع اليد ولو كان بإمكانهم اخفاء منازلهم لفعلوا فهؤلاء الناس فاجأوا الدولة بوجود حي كامل اسمه كوم غراب وكنت استأجر مرسما خاصا هناك لمدة اربع سنوات ولأنه مكشوف في معظم اجزائه ويقع علي مكان مرتفع يفصله عن كل المناطق المجاورة له ولأن لأهل الحي علاقة وطيدة بالاعمال الفنية لاشتغالهم بالفخار والخزف رأيت أننا جميعا نجتمع علي حب الفن والجمال لاسيما وأن هناك مجموعة من الفنانين التشكيليين يقطنون بالمنطقة وبدأت التجربة بخمسة منازل فقط وقمنا بعمل اسكتشات لها واخترنا الموتيفات الشعبية مثل الفازة ومن هنا أقبل الاهالي علي المشاركة بعد عقد جلسات مناقشة لهم للتعرف علي مشاكلهم وكانت تدور حول رغبتهم في تطوير مستوي الحي بادخال الصرف الصحي والإضاءة وتأمين وجودهم بصفة قانونية وتم عرض فكرة المشروع عليهم وتحمسوا لها وشاركوا في الرسم وبدأوا يشاركون في الرأي فمثلا اعترض أحدهم علي استخدام اللون الأسود والمشكلة كانت في العشوائية البصرية من بيوت مبنية بالحجر وأخري مبنية بالطوب والاسمنت والتنوع وصل الي حد التنافر الشديد في البناء وكان الخطأ الذي ارتكبناها هو أننا استخدمنا طلاء من البلاستيك وكان من الأفضل استعمال الجير لمقاومته اكثر للتغيرات الطبيعية وحرصنا علي رسم نجمة في نهاية كل دور لتعطي احساسا بالارتفاع واستخدام عناصر معمارية لاتزول مع الزمن مثل السيراميك والطوب. وأضاف أن التمويل كان علي رأس المشكلات التي واجهتهم ودفعتهم لإستخدام مواد رخيصة لاتقاوم الزمن والتعرية بالاضافة لصعوبة استخراج التصاريح اللازمة وترصد الحيللتجربة واصدار مخالفات ضدنا ففي المرحلة الأولي بلغت التكلفة10 آلاف جنيه وساهم فيها الاتحاد العالمي لنقاد الفن التشكيلي وقدمت وزارة الثقافة دعما ماليا للمشروع في هذه المرحلة من خلال المركز القومي للفنون التشكيلية وتكلف الفنانون أجور العمال والتكاليف اليومية للمشروع وفي المرحلة الثانية قام المركز الهولندي بالدعم المالي للمشروع وقد بلغت تكاليف هذه المرحلة44 ألف جنيه وقدم بعض رجال الاعمال تبرعات ووصلت التكلفة الاجمالية الي حوالي55 ألف جنيه واستمر العمل منذ يونيو96 الي مايو98 وكانت الفكرة تشتمل علي تشجير المنطقة وإقامة نافورة مياه ومبني اجتماعي لكنها احلام لم تنفذ علي أرض الواقع وشارك في التجربة نحو17 فنانا تشكيليا وتم عمل فيلم تسجيلي عن الحي بمساهمة من المركز القومي للسينما. الفرحة لم تكتمل وعندما توجه الأهرام المسائي الي كوم غراب وجد صدمة في انتظاره فالمباني تزايدت بشكل مخيف وتضاعف عدد السكان وتحولت الرسومات والتصاميم الي شخابيط وسألنا مجموعة من الأهالي عما يتذكرونه من التجربة؟ وهل استوعبوها أم لا؟ ومن السبب في اندثارها؟ ويقول محمد سيد أمين مبيض محارة ويقطن بالمنطقة منذ الصغر أنه شارك الفنانين عندما عرضوا عليه الفكرة ورحب بها وجمعوا مجموعة من عمال السقالات والمحارة بيومية وصلت الي25 جنيها يوميا وقاموا بتجميل واجهات المنازل التي وصلت حينها الي200 منزل بالاضافة الي تركيب كشافات اضاءة وكانت اغلب المباني من دور الي دورين أما مع تزايد الكثافة السكانية فالمنطقة وصلت الي ثلاثة واربعة طوابق. وتضيف السيدة عائشة راشق قائلة إنها تقطن بالمنطقة منذ14 عاما ولديها5 أولاد وعايشت التجرية ومدي تحمس الأهالي لها وعبرت عن مدي ترحيبها بالفكرة قائلة حد يكره النظافة وتري أن المنطقة تحتاج الي كثير من الدعم والتطوير ومن أهم المشاكل التي تواجه المنطقة قلة أعمدة الاضاءة وعدم الاهتمام بمقالب القمامة مؤكدة انها تتمني ان تتكرر التجربة مرة أخري وسوف يشارك فيها الجميع من صغير الي كبير بالمنطقة. أما الحاجة كريمة عبدالعزيز70 عاما وتقطن بالمنطقة منذ20 عاما ولديها7 أولاد فتؤكد نجاح التجربة حينها وتحمس الاهالي للفكرة حيث بدأ الفنانون بالواجهات ثم الحمامات ورصف بعض الطرق مؤكدة ان سوء حالة الطرق التي يعاني منها الأهالي أولي بالاهتمام بدلا من الرسم علي المباني. وتوافقها في الرأي أم محمد في افتقاد المنطقة الكثير من الخدمات ومن اهمها اعمدة الإنارة مؤكدة انها لاتعمل إلا بمرور المحافظ وقد يقوم البعض بكسرها حتي لا تضاء مرة أخري مؤكدة أن مجهود الفنانين ضاع رغم نجاح التجربة حينها إلا أنه بعد الانتهاء من التجربة قام البعض بتكسير الرخام. ويروي سلطان حسن صاحب ورشة مصنوعات جلدية بالمنطقة ان التجربة كانت ناجحة حيث نظفت المنطقة بأكملها ورصفت الطرق ولكن تم إهمال المشروع وقتها وبدأت المساكن تزداد يوما بعد الآخر مما اخفي معالم التجربة مؤكدا أن الاهالي جمعيهم رحبوا بالفكرة وتحمسوا لها واذا تكررت سيتحمسون لها لكن بعد قرار الإزالة الصادر للمنطقة فلا أمل في تكرارها. اليومية25 جنيها أما معتز جابر مبيض محارة ويقطن هو وعائلته بالمنطقة وأحد المشاركين في التجربة فيؤكد أنه يتمني تكرار التجربة فعندما جاء اليهم الفنانون رحب بالفكرة باعتبارها مصدر رزق حيث كان يحصل علي يومية تصل الي25 جنيها وجمعوا كل مبيضي المحارة والسقالات وبدأوا بالواجهات ثم المرافق وتوافد الاجانب والاعلام حينها لتصوير المنطقة إلا أنه لم تحدث متابعة وكثرت العشوائيات وباتت اغلب المناطق مصابة بالعديد من الشروخ. أما أم حسام صاحبة بقالة بالمنطقة ولديها4 أطفال وتقطن هي وزوجها منذ15 سنة بالمنطقة وعاصرت التجربة فتقول اه فاكره حضر مجموعة قالوا انهم من الهيئة العامة للآثار ورشوا شوية بوية وخلاص وتري ان المشكلة الأكبر هو سوء الخدمات والمرافق وهو ما يحتاجونه بالفعل والكارثة الأكبر هي صدور قرار الإزالة للمنطقة وجاء مجموعة من المهندسين قاموا بترقيم المنازل وطلبوا شهادات ميلاد الابناء وبطاقات الرقم القومي لأنه من المقرر هدم المنازل علي أن ينقلونا الي مدينة6 اكتوبر متسائلة ماذا سيكون مصيرهم في الفترة القادمة وكيف ينتقلون الي السادس من اكتوبر في ظل ظروفهم المادية الصعبة وارتباط ابنائهم وذويهم بالعمل في الحي. وأكدت الحاجة أم حسين وهي أم ل4 اولاد وتقطن بالمنطقة منذ12 عاما أن المباني كلها كانت في مستوي واحد من حيث الارتفاع وكانت رائعة في الجمال من حيث الصور والزخارف المرسومة علي المباني وشارك فيها اهالي المنطقة لانها كانت معرضة للإزالة ومثل هذه التجربة كانت الأمل في تراجع الحكومة عن قرارها ولكن مرت السنوات وجاء القرار بإزالة المباني كلها وشكلت لجنة لترقيم المنازل والكل ينتظر مصيرا مجهولا فرغم ما انفق علي المنازل من اساسات ودخول مرافق بالجهود الذاتية إلا أن الحكومة تصر علي ازالتها مؤكدة أنه منذ صدور قرار الإزالة وهم غير قادرين علي العمل ويتمنون أن تتكرر تجربة هؤلاء الفنانين لتحميهم من شبح الإزالة. العناصر الجمالية.. صفر ولمعرفة الهدف الاساسي من التجربة توجهنا بالسؤال الي صاحب الفكرة الفنان عادل السيوي فنان تشكيلي فأكد ان التجربة كانت تهدف الي التحام وتحالف الفنانين مع وضع بيئي واجتماعي في حي شعبي لأن ابداع الفنانين اصبح معزولا عن الحياة وبعد عودته من ايطاليا بعد اقامة استمرت عشر سنوات قرر أن يطبق هذه التجربة علي أرض الواقع وتحمس لها الفنان محمد عبلة والناقدة التشكيلية فاطمة اسماعيل رحمة الله عليها وحاولوا ان ينقلوا التطورات الابداعية والثقافية في الغرب ويضيف قائلا: عندما ذهبنا الي كوم غراب حاولنا ان نبحث عن العناصر الجمالية بالمكان فلم نجد وكان لدينا ثقة ان هؤلاء الناس لديهم ذوق بصري لكنه توقف. وأكد أن دور الفنان انتهي عند هذه المرحلة فليست وظيفتهم ان يتركوا عملهم ويجملوا الاحياء فالواقع لم يستوعب الفكرة لأن عيننا اعتادت القبح ومازالت القمامة تملأ الشوارع. المعارضة أكثر من التأييد أما الفنان معتز نصر فنان تشكيلي وأحد المشاركين في التجربة ويمتلك مرسما بالمركز الثقافي الملاصق لكوم غراب فيؤكد أن الفكرة كانت تهدف الي التركيز علي البعد الانساني من خلال التقريب بين هؤلاء الناس لاخراجهم من عزلتهم واستغرق المشروع سنتين وتم تنفيذ معرض في1998 ومن أهم العقبات ان المشروع ضخم ويحتاج الي ماديات ضخمة من رسم وتلوين الواجهات وتحسين المرافق ولذلك اكتفوا بان يكون الهدف الاساسي من المشروع هو تسليط الضوء علي بؤرة معينة وليس وضع الحل وكان من المفترض تمويل الفكرة ودعمها موضحا ان المعارضين للفكرة كانوا أكثر من المؤيدين لها وظنوا ان هدفهم الاستعراض بالفكرة ولكن كان هدفهم الأول ان يقدموا نموذجا جيدا للعشوائيات بدلا من ازالتها فكوم غراب نموذج صارخ للعشوائية فمازالوا يلقون بمخرجاتهم في الشارع مضيفا أن بعض اهالي المنطقة تخوفوا من الفكرة وشكوا في الغرض منها وطلبوا مقابلا ماديا نظير الرسم علي منازلهم ورجال الاعمال شاركوا في الفكرة بدعم نقدي وعيني في شكل بويات وسقالات. وأوضح نصر ان الفكرة مطبقة في ايطاليا والبرازيل وحاولوا تطبيقها في مصر في كوم غراب وتابع نصر قائلا من أهم العوامل التي أدت الي اندثار الفكرة هو التزايد العشوائي السريع للمباني في المنطقة فالمباني الجديدة طغت علي ما تم انجازه مؤكدا تفاعل أهالي المنطقة مع الفكرة إلا أن عدم التواصل والاستمرارية افقدها الكثير فرغم ان القبح اصبح سمة اساسية في مجتمعنا فأنه من السهل تغييره. وارجع السبب وراء عدم حفاظ الناس علي الفكرة الي شعورهم بان المكان ليس ملكهم مما جعلهم لايسعون لتطويره لأنه مهدد بالإزالة في أي وقت مؤكدا فقداننا ثقافة الحس المعماري حتي في المباني المخططة غير العشوائية فمناطق وسط البلد ومصر الجديدة التي كانت من اجمل المناطق اصبحت الآن من اسوأ الأماكن نظرا لعدم وجود قواعد ثابتة تحكم عملية البناء. التجربة لم تفشل ويري الفنان هاني راشد فنان تشكيلي وأحد المشاركين في التجربة ان التجربة لم تفشل وحققت الهدف المرجو منها وهو ترميم وتجميل المكان والدليل علي نجاح التجربة قيام مجموعة من الفنانين التشكيليين بتقليد التجربة بمنطقة بالقرب من كوم غراب تسمي المثلث وكان علي الدولة ان تتولي رعاية المشروع ومتابعته. وتؤكد الدكتورة صباح نعيم مدرسية مساعد ية بكلية تربية فنية قسم تصوير انها كانت من اكثر المتحمسين للفكرة وقامت بالمشاركة الفعلية بتنفيذ الرسومات والرسم علي المنازل فالفكرة كانت تعتمد علي حماس مجموعة من الشباب الفنانين وبذلت فيها الكثير من المجهودات ولكن ينقصها التمويل وعدم الاستمرارية مؤكدة انها في آخر زيارة لها للمكان منذ نحو شهر شاهدت المكان ولم تكن تتصور ان حلمهم ضاع وتحول الي سراب مؤكدة أن التجربة كانت تستحق نظام وخطة منظمة ومؤسسة كاملة تشرف عليها حتي تتسبب في صدي يدوم لان الفكرة كأنها لم تحدث وينساها الناس. وتري الدكتورة صباح نعيم اننا نعاني من سياسة النفس القصير وأي شيء يثبت نجاحه من خلال المداومة وهذا كان قد يتحقق من خلال اختيار مكان يقطنه ناس علي مستوي ثقافي أعلي حتي يستوعبوا الفكرة فأغلب المنطقة تعاني من سوء حالة المرافق وتفتقد الي مقومات المعيشة الاساسية فكيف يتذوقون الفن؟ كوم غراب.. ابن غير شرعي وتري الدكتورة سهير حواس رئيسة الادارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بجهاز التنسيق الحضاري أننا لانستطيع الحكم بالفشل علي التجربة وعدم استمراريتها نتيجة أنها انطلقت من خارج المنطقة وليس من أهلها مما جعل فقدانها سهلا موضحة ان التطوير كان يجب ان يكون اجتماعيا ويشمل البنية الاساسية حتي يستوعب اهالي المنطقة الفكرة ويقدروها ويحافظوا علي ماتم انجازه مؤكدة ان الفكرة لم تحظ بالدعاية المناسبة حتي تنتشر العدوي وتصل الي مناطق أخري. وتضيف التطوير اقتصر علي الشكل لذلك لايمكن أن نطلق عليه تطويرا بل يسمي تجميلا أي مجرد تطوير ظاهري وأوضحت الدكتورة سهير حواس ان دور الجهاز يقتصر علي اختيار الاماكن السليمة للتطوير والتجميل وتوجيه مجهودهم بشكل سليم وفقا لأماكن مدروسة بالاضافة الي استخدام المواد المقاومة للزمن مؤكدة أنه لايمكن ان نحمل الحكومة المسئولية لأن هذه المناطق ابن غير شرعي وعليها ان تولي الاهمية الي المناطق المخططة في الاساس.