قامت الولاياتالمتحدة باحتلال العراق تحت ثلاث دعاوي, الأولي هي وجود أسلحة دمار شامل لدي نظام الرئيس صدام حسين والثانية وجود علاقات بين ذلك النظام وتنظيم القاعدة العدو الرئيسي لأمريكا, والثالثة إقامة نظام ديمقراطي بعد إسقاط النظام السابق يكون نموذجا يحتذي يتم تطبيقه في دول الجوار اما بالاختيار أم بالضغط.... فماذا حدث؟ لم تعثر الولاياتالمتحدة علي أسلحة دمار شامل في العراق و اتضح أن هذه القضية كانت تدليسا مفضوحا بشهادة الكثير من كبار المسئولين الأمريكيين وخبراء وكالة الطاقة الذرية, كما أن الاحتلال لم يكشف عن وجود علاقات للنظام السابق بتنظيم القاعدة, ولكنه فتح الباب, وهيأ المناخ لتمركز خلايا من عناصر التطرف التي وفدت من دول الجوار و أفغانستان وغيرها لتشكل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين كرافد جديد لتنظيم القاعدة الرئيسي أثار مع قوة أخري طائفية حربا وصراعا مذهبيا لم يشهده العراق في تاريخه الطويل. ولم يبق إلا الخيار الديمقراطي الذي راهنت علية الإدارة الأمريكية السابقة, وتبنته الإدارة الحالية وأعلنت أنه هدف رئيسي يكفي تحقيقه لتجميل صورة الاحتلال وتبريره وهللت دوائر صنع القرار الأمريكية المعنية بالعراق بما يسمي بالتطور الديمقراطي في العراق, وأشاد الرئيس أوباما وأركان إدارته بالانتخابات البرلمانية ودلالاتها, واحتكام الأطراف الرئيسية المتنافسة لصناديق الانتخابات ودخول الصراع السياسي في العراق إلي مستوي أكثر وعيا وتطورا, وانخدع كثير من المراقبين للشأن العراقي بالعملية الانتخابية والتنافس السلمي وبدت مظاهر إيجابية تلوح في الأفق, وعادت القوي السنية للمشاركة في العملية السياسية و لم ترهبها ضغوط الفصائل المرتبطة بإيران أو تهديدات تنظيم القاعدة, أو الممارسات التي قامت بها الأجهزة المرتبطة بمكتب رئيس الوزراء مباشرة خاصة اعتقال القيادات ذات التأثير الشعبي والقادرة علي التعبئة الجماهيرية, فأكدت تلك القوي حضورها ضمن المعادلة السياسية في العراق وأسفرت الانتخابات عن تعديل نسبي في تلك المعادلة, حيث دخلت القائمة العراقية بقوة مؤكدة حضورها المتميز متصدرة القوائم الفائزة, كتيار يتجاوز الطائفية, وصوت السنة لقائمة يرأسها شيعي, لتأكيد رفضهم للمذهبية الطائفية, وليكون الوطن للجميع, واستبشر المراقبون للشأن العراقي خيرا, وتخيلوا أن العراق بدأ يخطو نحو الديمقراطية, إلا أن ما حدث قد فاق كل هذه التخيلات. في البداية رفض رئيس الوزراء احترام نتيجة الانتخابات وتطبيق الدستور الذي يقضي بتكليف القائمة العراقية بتشكيل الحكومة وطلب تفسيرا من المحكمة الاتحادية للنص الخاص بذلك في الدستور فأفتت بأن أي تكتل يحوز علي أكبر مقاعد هو المخول بتشكيل الحكومة وهو تفسير سياسي بالدرجة الأولي علي أمل أن يتمكن ائتلاف دولة القانون( الشيعي) برئاسة المالكي من صياغة تكتل مع الائتلاف الوطني( الشيعي) ليصبح الأحق بتشكيل الحكومة, ولم يصمد هذا التفسير طويلا لأن ذلك يصبح صحيحا لو تم تشكيل هذا التكتل قبل الانتخابات وليس بعدها, وكانت الخطوة الثانية من جانب إيران التي مارست ضغوطا قوية لتشكيل التحالف ديني مذهبي يضم الائتلافين السابقين وفصائل شيعية. أخري مع التحالف الكردستاني, ليعيد المعادلة السياسية التي حكمت العراق في السنوات الماضية ويحاصر التغيير الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة, ويواصل تهميش القوي السياسية السنية والعلمانية الرافضة للتيار الديني المذهبي, وتوالت الوفود التي سعت إلي طهران وعلي رأسها الرئيس العراقي جلال طالباني الذي عاد ليؤكد أن الأكراد سيتحالفون مع تكتل يضم ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني بزعامة عمار الحكيم, إلا أن رفض التيار الصدري الكتلة الأساسية في الائتلاف الوطني لرئاسة المالكي أجهض هذه المعادلة, ووضعت الرئيس العراقي في مأزق فحاول تغيير تصريحاته السابقة, وفشلت الجهود الإيرانية لجمع ائتلافي التيار الديني المذهبي, وبدأت القائمة العراقية حوارا مكثفا مع كل التيارات والكيانات الفائزة في الانتخابات وحاولت استثمار التباين المتزايد داخل التحالف الكردستاني لخلق أرضية تفاهم معه خاصة في ضوء تراجع نفوذ وتأثير الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس جلال طالباني وتبلور نفوذ متزايد للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني ورفض حزب التغيير الكردي بزعامة السيد نوشيروان مصطفي ترشيح الرئيس طالباني لفترة رئاسة ثانية. وهكذا عادت القائمة العراقية لتصدر العمل السياسي وسافرت وفود منها إلي السعودية وسوريا والأردن ومصر وتركيا, كما حاولت إجراء حوار مع إيران, وما أقلق رئيس الوزراء أن قيادات القائمة العراقية بدت محركة للأحداث وتزداد شعبيتها. فزاد من عمليات الاعتقال في صفوف أنصارها في الموصل وديالي والانبار وبغداد تحت دعاوي محاربة تنظيم القاعدة وأنصاره وجاءت الخطوة الأخيرة من جانب ما يسمي بهيئة العدالة والمساءلة الذي يتزعمها كل من أحمد الجلبي مهندس الاحتلال الأمريكي والعميل للمخابرات الإيرانية بشهادة كبار القادة العسكريين الأمريكيين وعلي اللامي الذي سبق اعتقاله من جانب القوات الأمريكية بسبب انتمائه للمجموعات الخاصة الإرهابية التابعة لفيلق القدس الاستخباري الإيراني, وذلك بإصدار قرار تضمن استبعاد عدد8 فائزين من القائمة العراقية ليس ذلك فقط ولكن إلغاء الأصوات الفائزين بها وعدم استبدالهم بمن يليهم في القائمة كما كان متوقعا, في تأكيد واضح علي منع القائمة العراقية من تشكيل الحكومة, وفرض الهيمنة للتيار الديني المذهبي الضيق, وهكذا مارست هيئة العدالة نفس دور مجلس صيانة الدستور في النظام الإيراني. والغريب في الأمر أن كل هذه التطورات تجري في غياب واضح لقوة الاحتلال التي صاغت هذا النظام بمؤسساته وأدواته, ويبدو الأمر وكأنه استسلام أمريكي للمقادير الإيرانية وتجاهل واضح لتداعيات ذلك علي الاستقرار والأمن, فمن الواضح أن الضغوط و الاستفزاز الذي تعرضت له القائمة العراقية ومحاولة تهميش السنة وفرت مناخا مواتيا لاستعادة تنظيم القاعدة لبعض العافية رغم مقتل قياداته الرئيسية, كما أن فصائل المقاومة المختلفة والتي آثرت تركيز عملياتها علي قوات الاحتلال والتي أبدت تجاوبا واضحا مع جهود المصالحة التي رعتها تركيا ووافقت عليها الولاياتالمتحدة, أزعجها كثيرا تخلي الولاياتالمتحدة عن هذه الجهود وتزايدت لديها علامات الاستفهام حول حقيقة الموقف الأمريكي, وهل يأتي ذلك ضمن عناصر الصفقة المرجحة مع إيران للمساعدة في الانسحاب الآمن للقوات العراقية قبل سنة من الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟ وهل لا تدرك واشنطن أن تنفيذ مخطط التيار الديني المذهبي و تهميش القائمة العراقية سوف يزيد من حده التوتر والاحتقان ويوفر الأرضية الخصبة لعودة الحرب الطائفية, خاصة بعد عودة جيش المهدي وإلغاء مقتدي الصدر قرار تجميده وتكليفه بتأمين المساجد والحسينيات الشيعية, كما يثور تساؤل آخر بخصوص الموقف الأمريكي علي النحو السابق- وهل يرتبط بعملية توفير مناخ وتبرير لاستمرار وجود قوات أمريكية بعد التاريخ الذي سبق تحديده للانسحاب. إن ما يجري في العراق حاليا يتضمن تطورات علي درجة كبيرة من الخطورة ويتطلب مواقف عربية أكثر جدية, تتجاوز عملية الترحيب بالوفود الزائرة وإصدار البيانات السياسية إلي مساندة فعلية لاحترام نتائج العملية الانتخابية وتأكيد الحضور العربي في مواجهة التغلغل الإيراني, وتنشيط الاتصالات مع كل القوي السياسية المعتدلة شيعية وسنية وكردية, ويتطلب حوارا عربيا مع الولاياتالمتحدة وتركيا وكذلك إيران.ولم يبق إلا الخيار الديمقراطي الذي راهنت علية الإدارة الأمريكية السابقة, وتبنته الإدارة الحالية وأعلنت أنه هدف رئيسي يكفي تحقيقه لتجميل صورة الاحتلال وتبريره والغريب في الأمر أن كل هذه التطورات تجري في غياب واضح لقوة الاحتلال التي صاغت هذا النظام بمؤسساته وأدواته, ويبدو الأمر وكأنه استسلام أمريكي للمقادير الإيرانية