علي قدر ما قد يبدو المشهد السياسي الراهن مقلقا للبعض, إلا أنه في أصله مشهد طبيعي, إذا تم قياسه بجذوره التاريخية, المسار السياسي الحالي يعبر عن تركيبة المشهد المصري السياسية التاريخية. حيث يتصرف كل طرف فيه بطبيعته التي تراكمت وفق ظروف وجوده في المجتمع المصري, ولكن الأمل في أن تتغير الظروف والأحداث, قد يجعل كل طرف يحاول التعلم من الآخر, ويغير سلوكه الذاتي, ويكتسب بعض صفات الآخرين, إن الطرف الذي سوف يملك القدرة علي تطوير نفسه والتعلم, وتوظيف الظروف لمصلحته, سوف يكون النصر حليفه. المجلس العسكري كان سلوكه السياسي إزاء الثورة, نابعا من تقاليده العسكرية العتيقة المحافظة, كان همه ومحركه الأساسي: أن يبدو في دور المنقذ الذي حمي البلاد من الفوضي, وأوصلها لبر الأمان, كل سعيه كان القيام بأقل عدد من الخطوات السياسية حتي تستقر البلاد, ويظل دوره مرتبطا بفكرة المنقذ( الذي رفض فكرة التوريث), وساند الثورة, وحافظ لحد بعيد علي معادلة النظام القديم نفسه. أما جماعة الإخوان المسلمين( وقد تضاف إليها فصائل الإسلام السياسي) فإن الذي يحكم تحركها السياسي لحد بعيد منذ بداية الثورة, هو اعتقادها وتصرفها علي أساس أنها جماعة سرية تتحرك وفق هذه المساحة, عندما تدخلت في المشهد الثوري بشدة منذ موقعة الجمل, أصبحت في حيرة بين سلوكها السياسي التاريخي المحافظ, ومشهد يطالب بالمزيد دائما, فكان محور ومنطلق قياس سلوكها السياسي هو مقارنة المشهد الراهن دائما بما قبل الثورة, وأن المتاح والحالي أيا كان فهو أفضل مما كان سائدا, هي تضع نفسها دائما في مقارنة بين حالة السرية والحصار التاريخية التي كانت عليها, والمشهد العلني الراهن أيا كان وضعه. أما الأحزاب والتنظيمات السياسية فيرتبط وجودها التاريخي في المشهد المصري بفكرة الموقف السياسي المتشدد, هي اعتادت أن تعلي من سقف المطالب وتكتفي بتسجيل ذلك في التاريخ, لأن ذلك كان كل ما يسمح به النظام السياسي لها, علي مدار الثورة, كانت تسجل المواقف من خلال البيانات السياسية, وتدير العلاقة مع باقي الأطراف السياسية من خلال منطق ما يمكن الحصول عليه, فعموما تحكم سلوكها السياسي فكرة تسجيل الموقف المتشدد, ثم الحصول علي ما يمكن الحصول عليه من المشهد. أما الحركات الشبابية والثورية فكل ما يعنيها هو تحقيق مطالبها وأهدافها الثورية, تتحرك منذ بداية الثورة بمثالية دون أي طموح سياسي, تفتح صدرها للموت دون خوف, علاقتها بباقي أطراف المشهد السياسي موسمية حين يلتقون علي هدف ما, قد تتعرض للاستغلال أو التوظيف أو التشويه, لا تملك وسائل إعلام تعبر عنها, بعض النخب التي تأخذ صفها سرعان ما تتخلي عنها, يرتبط وجودها في المشهد عموما بأهداف ثورية متجددة, وقدرة علي التضحية والموت. أما عموم الشعب المصري فهو يتحرك بمنطق البديل السياسي, الشعب عليه أن يبقي وأن يعيش, لذا فهو دائما ينظر للمتاح والبدائل السياسية المطروحة ويختار منها, يتحرك بمنطق إعطاء الفرصة قبل أن ينقلب علي أحد البدائل, مصدر وأصل مشاركته في المشهد السياسي قائم علي البقاء والتكيف مع أي وضع, الاختيار من بدائل مطروحة كلما أمكن, إعطاء الفرصة قبل الانقلاب علي بديل ما, ولكن الشعب دائما في حالة حراك مستمر, وتعامله مع البدائل السياسية قد يتطور في أي لحظة مفاجئا الجميع. والخلاصة أن الصراع والصدام والارتباك في المشهد السياسي الحالي أمر طبيعي ومطمئن, الجميع يحاول أن يتصرف وفق ما تعلمه, والجميع يحاول استكشاف المشهد واختبار قدرته علي السيطرة عليه والانتصار فيه, أقصي يمين المشهد محافظة وتمسك بالماضي القديم هو المؤسسة العسكرية, وأقصي يسار المشهد ومطالبة بالتغيير الجذري هم الثوار, وبينهما تقع أطراف المشهد السياسي التقليدية. إن النصر والقدرة علي السيطرة علي المشهد السياسي, سترتبط بمن لديه قدرة أكثر علي التخلص من ذاتيته واكتساب صفات الآخرين. مثلا: أن يتعلم الثوار أهمية التنظيم وتبدأ مجموعات منهم في طرح نفسها كبديل سياسي, أو تستغل الأحزاب السياسية الوضع الراهن وتنجح في إقامة قواعد جماهيرية بين الناس, أو أن تتخلي جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة عن فكرة الحذر والتدرج في التعامل مع المشهد السياسي, وتأخذ المبادرة وتطرح مشروعا سياسيا يلتف حوله الشعب. لقد تغير المشهد في ميدان التحرير يوم الثلاثاء, وشهدنا حقيقة مشاركة شعبية تدل علي بداية تحول في المشهد, وكذلك صرح المتحدث العسكري بأن ولاء القوات المسلحة للشعب والأرض. من سيملك القدرة علي فهم الرسائل السياسية الدائرة في المشهد الراهن, سوف تكون له القدرة الأكبر علي الانتصار, الرابح علي عكس ما يظن الكثيرون هي مصر, مصر أصبحت دولة تفرح وتحزن, تنهض وتتعثر, أصبح بها حراكا سياسيا حقيقيا, أراهن علي أن استمرار هذا المشهد الحالي سينتج شعبا ومجتمعا فعلا غير مغيب, لنمنح أنفسنا الفرصة في التعلم, وليكن النصر حليفا للأكثر قدرة علي التطور, ولتكن مصر هي الفائز النهائي. كاتب وباحث سياسي