وهل أنقشع غبار الثورة؟ كيف سيكتب التاريخ هذه الفترة(11-2012 م)؟ المشاهد تتوالي والأحاسيس تتباين والأفكار تتضارب. فمنذ أن وعيت الدنيا أدركت أن هناك فقراء وأغنياء, ورؤساء ومرؤوسين, وطيبين وأشرارا, وعسكرا وحرامية. ولكنني أيضا فهمت أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح, فالأغنياء دائما يعطفون علي الفقراء, والرؤساء غالبا يعلمون المرؤوسين, والطيبون حتما ينتصرون علي الأشرار, والعسكر يقبضون علي الحرامية. عشنا فترة الشباب مع نهضة الدولة, بتحولاتها الصناعية المنتجة, ورقعتها الزراعية الممتدة وطاقتها الكهربية المتضاعفة من بناء السد العالي, برعايتها للعمال والفلاحين والمهمشين من الناس, وتحجيمها لهيمنة رأس المال المستغل, بريادتها السياسية ورفضها للتبعية وقيادتها للحركات التحررية حول العالم., عشنا زمن الإنجازات والانتصارات والاحتفالات وتعرضنا للاحباطات والانكسارات والانتكاسات, وكانت فترة نابضة بالحياة مليئة بالإنتاج والإبداع, مفعمة بالعمل والأمل. وجاءت سنوات عجاف, ركود وكأنه موات, في مجتمع انفرط عقده الاجتماعي فالأغنياء يسحقون الفقراء والرؤساء يتعالون علي المرؤوسين, والأشرار يبطشون بالطيبين, والعساكر يتواطأون مع الحرامية!! سادت قيم فاسدة, من استخدام النفوذ للحصول علي غير المشروع, واستغلال البسطاء من الناس, وأصبحت الرشوة والمحسوبية هي أساس التعامل في أروقة الحكومة. تزاوج أصحاب النفوذ وأصحاب الثروة, ثم توحدوا في كيان واحد حاكم باع وسائل الإنتاج فانتقلت ثروة البلاد إلي جيوب الحكام والأثرياء, وزاد الفقر بين الناس وانكمشت الخدمات, فافتقد المصريون العلاج الناجع والإسكان الصحي والوظائف الفعالة والتعليم الرصين والأمان الحقيقي. كان التناقض فادحا وفاضحا, فامتدت العشوائيات وبات الناس يزاحمون الأموات في سكن القبور, بينما يسكن الحكام في المنتجعات والقصور, المحكومون لايجدون قوت يومهم, والحكام يجلبون طيب الطعام من عواصم أوروبا, الشباب فقد الأمل في الحصول علي فرصة عمل شريفة وحياة كريمة ومستقبل هانيء فهاجر منتحرا مبتعدا عن وطنه, بينما تقلد العاطلون من القدرات الوظائف المرموقة والمناصب العالية داخل الدولة وتقاضوا المرتبات الفلكية, فتفاوتت المرتبات العليا والدنيا في المؤسسة الواحدة لتصل إلي الف ضعف أو عشرة آلاف!! الوظائف المتاحة للشباب اليائس البائس تمثلت في حماية وحراسة أصحاب النفوذ ورجال الأعمال, الموقف تجسد في سؤال عبثي, كيف يستقيم مجتمع تسرق فيه الأقلية الأغلبية, وتستخدم نصف الشعب ليحميها من النصف الآخر؟ وأصبحت البلطجة وظيفة مطلوبة وسلعة رائجة تستخدمها الدولة بأجهزتها الرسمية والسرية ضد أفراد الشعب البائس اليائس لإطالة عمر نظام ميت متقوض. السؤال المحوري هنا أن هذا النظام المعوج حمل في طياته أسباب انهياره, فكيف لم ير القائمون علي الأمور هذا البنيان المخوخ, لعلهم اطمأنوا لنظام أمني قمعي يستخدم كل أدوات البطش والقهر لحمايتهم ومساندة نظامهم الفاسد. وأتصور أنهم راهنوا علي مفهوم مغلوط عن طبيعة هذا الشعب, فهو من وجهة نظرهم شعب خائف خانع لا يثور, يدين بالطاعة لمن يضربه بقوة, ينافق حكامه ويتزلف إليهم, فضلا عن أنه شعب عبيط يصدق مكذوب الكلام ومعسولة. شباب هذه الأمة, كان عنصر المفاجأة في غيبوبة النظام المنتشي بقوته, المتربع علي ترسانته القمعية وأجهزته الموالية, فلقد خرج الشباب المثقف الشجاع من رحم المجتمع الموصوم بالفقر والجهل والمرض, واختار يوما رمزا ومكانا رمزا وأسلوبا رمزا ليعلن عن رفضه ممارسات النظام, وتحولت المظاهرات إلي ثورة شعبية جارفة حين تعرض الشباب للعنف والسحل والقتل فانضم آلاف المتظاهرين من أحياء القاهرة الفقيرة وقري مصر البعيدة إلي ميدان التحرير. وجاء أعداء الثورة راكبين الجمال والبغال يدعمهم بلطجية الأمن وقناصة النظام, فخسروا المواجهة, وسقط رؤوس النظام, ودارت فترة انتقالية متعثرة لسوء الإدارة أو سوء الطوية, جرت فيها صفقات ومواءمات ومواجهات, واتفق الناس رغم تضييق العيش عليهم وخلخلة الأمن وبلبلة العقل علي أن يكون الصندوق عنوان الحقيقة, وهنا تمت محاولات مستميتة للالتفاف علي الثورة والصندوق, وتم التدبير والتخطيط والتجييش للفتنة والفرقة, وإعادة إنتاج النظام القديم بأغلبية مريحة. وكما كانت مفاجأة الميدان, وجاءت مفاجأة الصندوق, وكانت أبلغ رد( رغم الفارق الضئيل) علي الذين يزعمون أنهم القادرون علي توجيه اختيارات الناس والعبث بارادتهم واللعب بعقولهم. بعد أن أنقشع الغبار نحتاج إلي هدنة لالتقاط الأنفاس, والتنبه إلي أن الثورة لم تكن ضد أشخاص بعينهم ولكنها كانت ضد أوضاع مقلوبة, ونظام ضيق علي الناس سبل العيش, سرق أرزاقهم وانتهك كرامتهم وحريتهم وعظم الفجوة بين الطبقات, وكرس للظلم الاجتماعي, وعلينا أن ندرك أن أسباب الثورة مازالت قائمة. يحتاج النظام الجديد إلي فرصة لدراسة الأوضاع وتغيير المعوج منها( وهو كثير), وبناء دولة حديثة تؤسس لنظام اقتصادي سليم, وتهتم بالرعاية الصحية والنهضة التعليمية, وأن تنظر في مظالم الناس, وتحمي كرامتهم, وتصارح الناس بأن فساد ثلاثة عقود لن ينصلح في ثلاثة أشهر. نحن نستطيع أن نحقق نهضة الأمة إذا تضافرنا تحت لواء قيادة رشيدة مخلصة, تضم أطياف الشعب كله وتستمد منه العون والقوة, وتري طريق البناء واضحا جليا بعد أن انقشع الغبار. جامعة الإسكندرية