يمد محمود عبدالنعيم يده الممسكة بفرشاة إلي علبة طلاء صغيرة تفوح منها رائحة الكيروسين وبخط مرتعش يكتب علي الجدار الأخضر لبيت والده الكائن بشارع التروللي بالمطرية حج مبرور وذنب مغفور. ينهي السطر وينتقل إلي سطر جديد يخط فيه مايمليه عليه أحد الواقفين من آي القرآن الكريم. ينتهي ويتراجع بضع خطوات ليتأمل ماأنجزته يداه بقليل من الرضا. ثم يتناسي ما كان علي الحائط, ويقف علي ناصية الشارع الجانبي الذي يقع علي رأسه البيت ويستكمل المزاح مع الأصدقاء. تتكرر هذه الصورة بشكل سنوي في العديد من شوارع المناطق الشعبية التي لاتزال تحتفي بشعيرة الحج, وتربطها بطقوس موازية كانت في مرحلة زمنية ما, ملازمة لآداء الفريضة التي تتم أركان الإسلام الخمسة. في شارع جانبي قريب من بيت محمود يجلس حمادة سلام الخطاط في محله الصغير بانتظار طالبي خدماته. حمادة واحد ممن احترفوا رسم الخط العربي ويوكل إليه سكان منطقة المطرية والمناطق المحيطة بها( أقربها منطقة عرب الحصن), بمهمة كتابة الأدعية والآي القرآنية, ورسم رموز تتعلق برحلة الحج علي الجدران الخارجية لمنازل الأهل والجيران العائدين من الرحلة المقدسة. يقول حمادة سلام: قبل خمسة عشر عاما كنت أتلقي طلبات أكثر لكتابة ورسم تهاني الحج, الآن لم تعد الطلبات بالحجم نفسه, ولم يعد هو نفسه يقبل بالكثير مما يعرض عليه ويؤكد لا أرسم علي جدران البيوت إلا طلبا للقمة العيش, وأتحسس من المشاركة في طقس يتسم بالرياء يفسر حمادة سلام رفضه بكون الرسم علي البيوت يعد رياء اجتماعيا وجنوحا للتفاخر بالقيام بشعيرة دينية. ولكن ابراهيم ومصطفي محمد لهما دوافع أخري في الكتابة علي الجدار الخارجي للبيت الذي يملكانه في شارع عزت بمنطقة المطرية أيضا, تعود الكتابة علي بيتهما للمرة الأولي التي سافرت فيها والدتهما للحج, يقول مصطفي أبو عمار الكتابة علي جدار للبيت عادة, فنحن نحتفل ويحتفل معنا الجيران بسفر والدتنا إلي المسجد الحرام. الهدف كما يوضحه مصطفي محمد هو إدخال الفرحة علي قلب الحاج العائد, من خلال الاستقبال الاحتفالي الذي يشارك فيه كل أهله وجيرانه, لهذا استدعي الشقيقان خطاطا ليكتب علي جدار البيت الخارجية, ويرسم موتيفة لسفينة استخدمتها والدتهما للذهاب والعودة إلي الأراضي الحجازية مرارا. الطائرة والسفينة عنصران مشتركان في معظم الرسوم التي تحتل جدران البيوت في المطرية وعين شمس وناهيا بولاق الدكرور, لكن الجدران نفسها تشهد موتيفات فنية أخري غابرة كانت تحتل تلك المساحات المتراوحة بين الجير الأبيض المغبر أو الأصفر أو الأخضر, التي اعتاد الناس تلوين الجدران الخارجية لبيوتهم به. فمن هنا تطل ناقة وهناك يظلل الكعبة مسجد ذو قباب. هذه الأشكال المرسومة تتلاشي من الرسوم الأحدث عمرا. يقول حمادة سلام: الناس يطلبون أن نرسم لهم وسيلة النقل التي استخدموها في الذهاب للحج, ظل الناس يهتمون برسم الجمل والهودج ولكن منذ بدأت العمل قبل خمسة وعشرين عاما لم يعد أحد يطلب مثل هذه الرسوم المعقدة. قبل خمسة وعشرين عاما بدأ سلام العمل, وكف معلمه وأستاذه الخطاط سيد محروس عن الرسم مكتفيا بالخط العربي, وبنقل الحرفة إلي ولده الذي حل محله في دكانه الصغير الكائن بشارع جوبيان بالمطرية. سيد محروس يعلق علي تراجع الإقبال علي رسم تلك الموتيفات القديمة بأن الناس خلاص بقوا مبسوطين, يري محروس في تحسن مستويات المعيشة ولجوء الناس للسفر بسبل أكثر راحة, سببا في تراجع الاهتمام برسم الموتيفات القديمة المرتبطة بعملية الانتقال للأراضي الحجازية حيث تقام الشعائر. لكن محروس يرصد في الوقت نفسه أن التراجع ليس علي مستوي طبيعة وحجم الرسوم التي يطلب من الخطاطين والنقاشين وضعها علي الواجهات فحسب, بل التراجع أيضا في الطلب علي الخدمة نفسها. فوفقا لما يقوله محروس الذي يتخذ من قلب البورسعيدي( لقب عائلة الخط العربي الشهيرة) لقبا له, فقليل من أبناء الأسر المسافرة للحج يأتون طلبا لخدماته وخدمات الخطاطين الأخرين في وضع الرسوم علي بيوتهم. ولكن في منطقة عرب الحصن القريبة التي مازالت تحتفظ بطابعها الريفي, لاتكاد جدران البيوت تخلو من تلك الرسوم. وهو مايفسره الخطاط حمادة سلام تلميذ سيد محروس بقوله: الناس في عرب الحصن والمناطق الشبيهة مازالوا يتمسكون بالتقاليد القديمة. هذه التقاليد تتراجع داخل المدينة حتي في الأحياء الشعبية. الظاهرة والوظيفة: لايندهش أستاذ دراسات الفولكلور د. عبدالحميد حواس من تراجع الإقبال علي وضع رسوم الحج علي البيوت, ولايري في ذلك مدعاة للقلق من قرب اختفاء ظاهرة فنية شعبية راسخة منذ مئات السنوات. يقول د. عبدالحميد لكي نفهم سبب تراجع الظاهرة ماعلينا أن ندرك أن هناك قانونا لذلك يرتبط بالوظيفة. هذه العبارة المقتضبة فسرها د. حواس في أبحاث وكتابات عدة, أجمل للأهرام المسائي مؤداها بقوله: لكل ظاهرة فنية وظيفة اجتماعية بعينها. وتتراجع الظاهرة بتراجع تلك الوظيفة, أو يتم إحلالها بظواهر فنية أخري قادرة علي القيام بذات الوظيفة. يشرح أستاذ دراسات الفولكلور بالمعهد العالي للدراسات الشعبية تلك النظرية بأن المجتمع المصري كان يعد الحاج المسافر نائبا عنه, فالمجتمع الصغير المحيط بالحاج من أسرة وجيران كان يسهم في إعداد ملابسه وراحلته وزاده للرحلة التي تستغرق عدة أشهر ذهابا وإيابا, لهذا كان المجتمع الصغير المحيط يقضي شهرا من الإعداد الذي تصحبه أغان لتشويق الحاج إلي الرحلة والتغني بالقرب من النبي ومن الأراضي المقدسة, ثم يودع هذا المجتمع الحاج بأغان أخري ويعد للاستقبال باحتفالية تتضمن ضمن ماتتضمنه تلك الرسوم التي كانت تزين بيته احتفاء باستكماله لأركان الاسلام الخمسة. ويتابع د. حواس تحليله لتراجع الظاهرة فيقول: الآن لم تعد رحلة الحج تستغرق شهورا, وصار الحج مسئولية الحاج وحده, ولايشارك مجتمعه الصغير إلا بقدر بسيط من التوديع والاحتفال بالعودة السريعة بعد عدة أيام من السفر. يقول د. حواس: لم يعد الحج يؤدي ذات الوظيفة في المجتمعات الصغيرة, فضلا عن أن بنية تلك المجتمعات قد تغيرت بالفعل. فمن الطبيعي ألا نعول علي استمرار الظواهر الاجتماعية والفنية المرتبطة به. الباحث محمد أمين عبدالصمد مدير إدارة التراث الشعبي بالمركز القومي للمسرح والدراسات الشعبية, يري أن تغير التركيبة السكانية يعد عاملا مؤثرا في تراجع الاقبال علي الظاهر ة الفنية الخاصة بالحج. سواء في شكلها المادي الرسوم والفنون البصرية المتعلقة بالحج, أو في صيغتها القولية والشفاهية المتعلقة بالغناء والازهايج.. فالاسرة لم تعد تسكن كلها في بيت واحد, ومع التوسع الرأسي في السكن, وانتقال ابناء الأسرة الواحدة للعيش في شقق متناثرة, صار من الصعب أن يقوم الحاج بتزيين جدران بيته الخارجية بالرسوم, فباقي سكان العمارة ستكون لهم اعتراضات مفهومة علي مثل هذا التصرف. ولهذا يستمر فن رسوم الحج في الصعيد وقري الدلتا وبعض الأماكن الاخري ذات الطبيعة الريفية والقبلية, ويتراجع بشدة في المدن الكثيفة كالقاهرة والاسكندرية وعواصم المحافظات. وللصعيد قول آخر: في كتابهما الصادرة ترجمته عن المركز القومي للترجمة بعنوان رسومات الحج ترصد آفون نيل وزميلتها المصورة آن باركر رسوم الحج في مناطق متفرقة بالصعيد وخاصة الأقصر وقراها المتناثرة. بالإضافة للرسوم الجدارية في بضع محافظات أخري. في كتابهما الحامل لعنوان فرعي فن التعبير الشعبي المصري عن الرحلة المقدسة تبدو الرسوم ثرية بالألوان والعناصر البصرية ذات الطبع الحكائي. فالرسوم ليست مختصرة وشديدة التقشف كتلك التي تشغل جدران البيوت في القاهرة, بل تزدحم بالموتيفات الإسلامية التقليدية من ورود وزخارف, بالاضافة لإحتوائها علي رصد دقيق لرحلة المحمل الحامل لكسوة الكعبة المشرفة التي كانت تخرج من مصر للسعودية في موكب رسمي سنويا حتي العام1691 إلي جانب احتفالية الهودج الحامل للحجيج من الإناث. تحتل الكعبة في كل تلك الرسوم موضع القلب ويجاورها مسجد هو غالبا مسجد النبي صلي الله عليه وسلم الذي لايخفي الحجاج المصريون حتي الآن شوقهم لزيارته كهدف رئيسي من أهداف إنطلاقهم في تلك الرحلة البعيدة. ولكن الاختلافات في العناصر الفنية بحسب المنطقة الجغرافية تتبدي في رصد آن باركر لرسوم المناطق الساحلية, ففي بورسعيد تظهر عروس البحر بجلاء بجوار نافدة أحد الحجاج وفوق رأسها تبحر السفينة الحاملة للحجيج نحو ميناء ينتظرهم. أشكال السفن نفسها لاتتكرر بالكيفية ذاتها في الرسوم المتعددة التي ترصدها آن, بل تتبدي مدارس فنية فطرية متعددة تجنح للتفصيل والاحتفاء بالألوان والضوء. كل هذه الأشكال صارت الآن مهددة بأن تصير ظاهرة لن تتكرر, ربما لتراجع وظيفة الظاهرة كما يقول د. عبدالحميد حواس, أو لتغير طبيعة العلاقات الاجتماعية كما يقول الباحث محمد أمين عبدالصمد, أو ربما بسبب مايراه الخطاط سيد محروس.. فقط لأن معادش في ناس كتير طيبين.