ساعات قليلة وينتهي أمر القذافي ونظامه تماما, وتبدأ ليبيا مرحلة جديدة طالما تطلع اليها الشعب الليبي, مرحلة ما بعد الطاغية الذي أفسد حياة الليبيين وجيرانه الإقليميين طوال أربعين عاما. بدد فيها موارد البلاد رغم غناها, وأفقر الشعب رغم حقوقه المشروعة في حياة لائقة وكريمة, وظلم العباد وداس علي كل القيم الدينية والإنسانية والوطنية رغم حديثه الممل عن هذه القيم النبيلة. ساعات قليلة ويحسم الأمر للثورة والثوار ويصبح الطاغية في ذمة التاريخ الذي لا يرحم أحدا, خاصة المفسدين في الأرض. استطاع الثوار عبر ستة أشهر من النضال والكفاح والتضحيات الجسيمة أن يحرروا بلدهم من الاستبداد والقهر, وأن يفتحوا بابا للأمل بأن يسترد الليبيون حريتهم وكرامتهم, وأن يعيشوا مثل شعوب الأرض في ظل نظام سياسي طبيعي يحترم معني المواطنة وحقوقها الآن سوف يعيش الليبيون بعيدا عن هيمنة القذافي وأبنائه, وبعيدا عن السياسات الطائشة والأزمات المصطنعة, سوف يعيشون الحلم في غد أفضل ولديهم كل الفرص لكي يتحقق هذا الحلم والمهم هو الإرادة والوعي. ومع سقوط القذافي ونظامه تكتمل حلقة أخري من حلقات ثورة الشعوب العربية, ويبقي علي شعوب أخري كما اليمن وسوريا أن تتمسك بحقها في الحرية والكرامة, وأن تأخذ الدرس الكبير والأهم من الثورة الليبية, درس التضحية والإصرار والمثابرة, درس التحرك الجماعي الواعي والتمسك بالأمل والعزم علي تحقيق الهدف, درس وضوح البرنامج والرؤية بشأن الحاضر والمستقبل معا. صحيح لقد حصل الثوار والمجلس الوطني الانتقالي علي دعم كبير من قبل المجتمع الدولي عسكريا وسياسيا لا تحصل عليه شعوب ثائرة أخري, وقام الناتو بدور كبير في حسم المعركة عسكريا لصالح الثورة والثوار لكن الصحيح أيضا ان هذا الدعم ما كان له أن ينجح لولا التضحيات الشعبية الجسيمة, إذ وصل عدد الشهداء من الثوار إلي ما يفوق20 الف شهيد, و36 الف مصاب, والإدارة الحكيمة للمجلس الوطني الانتقالي الذي استطاع ان يعبر عن منظومة عمل جيدة وائتلاف بين مكونات الشعب الليبي سواء في الداخل المقهور أو في الخارج المعارض, وأن يعبر عن طموحات الليبيين بكل صراحة ووضوح سواء لليبيين أنفسهم أو للمجتمع الدولي الذي كان عليه أن يراقب أداء المجلس في المرحلة الأولي وان يتأكد من قدرته علي قيادة الثورة في جبهات الإعلام والدعاية والسياسة والحرب والمناورات الإقليمية والدولية في آن واحد وما ان أدرك المجتمع الدولي أن المجلس الوطني الانتقالي قادر علي الحركة الواعية حتي بدأ تدفق الدعم والمساندة بأشكالها العديدة, والتي أسهمت بدورها في نجاح الثورة الليبية. الآن تصحو ليبيا, علي اسئلة صعبة وتحديات كبيرة فالهدم ورغم ما فيه من تضحيات ومعاناة كبيرة فإن البناء والخروج من عنق الزجاجة يتطلب تضحيات أكبر وحسما أكثر ورغم ان المذكرة التي أعدها المجلس الانتقالي وقدمها إلي عدد من عواصم العالم الكبري وصاغ فيها رؤية لإدارة المرحلة الانتقالية وصولا إلي مرحلة تأسيس ليبيا الجديدة, تبدو رصينة وواعية بما يجب ان يحدث بالفعل, فأن الأمر يتطلب قدرا اكبر من التركيز في المهام والمسئوليات, والأهم معالجة سريعة للوضع الأمني المحمل بتحديات واسعة المدي ففي هذه الرؤية نجد اهتماما بتوضيح طبيعة النظام السياسي الذي تطمح اليه الثورة الليبية حيث النهوض الاقتصادي القائم علي المعرفة والتخطيط العلمي السليم للموارد الاقتصادية ووضع حد للفقر والعوز والبطالة, وبناء دولة الشراكة الاقتصادية التي تمزج بين قطاع عام قوي ومنتج وقطاع خاص حر ومبادر ومجتمع مدني داعم وفاعل, وبناء مؤسسات فاعلة وضمان حقوق المرأة بالقانون والدستور والمساواة في الفرص, وتأكيد الدولة المدنية التي تحترم العقائد وبعيدة عن التعصب والتطرف والعنف مع احترام حقوق الإنسان, فضلا عن التزام الدولة الجديدة بأسس احترام الجوار والسعي للتكامل الإقليمي والإسهام في تحقيق السلام والأمن الدولي. ومن الناحية العملية تبدو خطة المجلس الانتقالي ذات طابع عملي, فهي تقوم علي ثلاث مراحل الاولي منها تتعلق بمرحلة انتقالية لا تزيد علي ثمانية اشهر يتولي فيها المجلس الانتقالي غير المنتخب شئون البلاد وتكون مهمته الأساسية إعداد البلاد لمرحلة الانتخابات وإعداد الدستور الدائم, ثم تأتي مرحلة ما بعد الانتخابات وفيها يتولي مجلس وطني منتخب شئون البلاد ويدير فيها عملية المؤسسات ووضع الدستور الجديد وتحديد موعد آخر للانتخابات تتم وفقا للنظام السياسي الذي سيحدده الدستور, ثم تبدأ المرحلة الثالثة, مرحلة الدولة الجديدة التي يرتضيها الشعب الليبي لنفسه والرجاء أن يسود التفاهم بين القوي السياسية والقبائل وكل الجماعات سواء ذات الطبيعة المدنية الخالصة أو ذات المرجعيات الدينية والتي شاركت جميعها في الثورة وتضحياتها, وأن يتعاون الجميع في بناء ليبيا الجديدة علي قدم المساواة ودون محاولات إقصاء طرف أو جماعة بعينها لأي سبب كان. هذه المراحل الثلاث متكاملة مع بعضها البعض, تتطلب تضافر كل الجهود ومشاركة كل القوي دون اقصاء, فبالقطع ليس كل من تعامل مع النظام السابق كان فاسدا أو مشاركا في الاستبداد الذي مارسه القذافي علي الجميع بما في ذلك بعض ابنائه وأبناء قبيلته القذاذفة, مع وضع ضوابط صارمة لمحاسبة رموز النظام السابق بالقانون وعبر المحاكم الطبيعية وليس الاستثنائية فإذا كان الشعب الليبي يطمح لبناء دولة جديدة تتماشي مع معايير الديمقراطية والمشاركة والقانون والبعد عن الاستبداد والفساد, فمن باب أولي أن يكون عنصر المحاسبة المنضبط عبر الآليات القانونية بعدا رئيسيا في إدارة المرحلة الانتقالية وما بعدها. هذه الرؤية الواضحة إجمالا لعملية الانتقال من عهد الاستبداد إلي عهد دولة القانون سوف تواجه أول الاختبارات الحاسمة في مجال الأمن, فالسلاح ليس منتشرا وحسب بين أيدي الصغار والكبار, ولكنه أصبح لدي الكثيرين وسيلة للحسم السريع, ونظرا لضغوط الثورة ومواجهة قوات القذافي الأكثر تسليحا وعتادا وعامل الزمن, لم تكن عملية الإعداد العسكري من حيث التدريب والانضباط المؤسسي للثوار مكتملة الأركان, مما يجعل من احتواء الموقف الأمني الأولوية رقم واحد في المرحلة الأولي لما بعد سقوط القذافي, فضلا عن ضرورة السيطرة علي أي محاولات للانتقام الشخصي فرديا أو جماعيا من الذين وقفوا مع النظام البائد, وترك عملية المحاسبة للمؤسسات القضائية ووفق ضوابط معينة حتي لا تتحول البلاد إلي ساحة حرب من نوع آخر فبدون الأمن سوف يدفع الشعب ثمنا إضافيا حتي يحقق اهدافه في الحرية والكرامة وبدون الأمن قد ينفض المجتمع الدولي عن تقديم المساندة والدعم لليبيا الجديدة.