صوت ضجيج.. وصافرة قصيرة مألوفة تتكرر بعدها بثوان معدودة ثم الصوت المعروف للعجلات المتحركة علي القضبان, وتبدأ الرحلة. في بداية النفق الصغير المقام داخل متحف سعد زغلول الثقافي ستري عين خيالك صورة تكونها أنت للقاهرة طبقات من التاريخ والعلاقات الاجتماعية تتراكم ثم تتكشف, بينما تستمع للأصوات التي تدخل أربعة فنانين من مصر وسويسرا ليصنعوا منها مزيجا فنيا يستحق التوقف في معرض المدينة الشبح الذي تقيمه المؤسسة الثقافية السويسرية للفنون المعاصرة بالقاهرة بالتعاون مع متحف سعد زغلول الثقافي. الرحلة تتحرك بين الأرض والسماء, من الصعب وصفها برحلة صوتية في المكان رغم أن بداية العمل الفني المعتمد علي التجهيز الصوتي أوartsound توحي برحلة مكانية خالصة, من خلال حوالي ربع الساعة ستقضيها مع أصوات حركة وضجيج ركاب المترو إلا أن سنتيمترات قليلة تفصلك عن رحلة أخري تربط قلبك بالسماء, أصوات يختلط فيها الآذان بصلوات قداس الأحد الصباحية تستمر لربع ساعة أخري لتلخص التاريخ الروحي لمدينة القاهرة التي شهدت وتشهد امتزاج اثنين من أكبر الديانات السماوية انتشارا. صوت قداس الكنيسة المصرية والصلوات القبطية الأرثوذكسية يجري علي إيقاع خرير مياه شبه منتظم قد يحيل ذهنك كما أحال ذهني إلي منطقة مجمع الأديان التي يجري فيها النيل وارتحلت منها العذراء مع وليدها إلي صعيد مصر تلك المنطقة التي يرتفع فيها الآذان من أول مسجد جامع في مصر عمرو بن العاص مختلطا باصوات القداس من كنيسة الشهيد مارجرجس والكنيسة المعلقة. لكن تلك الرحلة الروحية لن تستمر كثيرا فما إن تتقدم خطوات قليلة أخري حتي يبدأ الضجيج الصاخب المميز لشوارع القاهرة التي لا تنام, الصوت يخترق أذتك بصرير منتظم مؤرق, يتراجع بعد قليل إلي خلفية وعيك لتصبح أنت جزءا من المتاهة الماثلة أمامك.. صورا مبتورة مقطعة سيئة الإضاءة لشوارع القاهرة الملونة لا توجد صورة مكتملة, تتداخل الموجودات والألوان والأضواء في الصور المتقاطعة المعلقة بشكل متقاطع إلي السقف, لتشكل متاهة تلخص حال حياة المدينة الصاخبة. تستمر الرحلة التي بدأت تتشكل وتتضح الآن, هي ليست رحلة في المكان ولا رحلة في الزمن, بل رحلة في حاضر القاهرة المتجاوزة لتعريفات المكان والزمن, يمكنك الآن ان تهرب من المتاهة التي ظننتها خروجا من النفق إلي رحبة أوسع لتعود إلي النفق ثانية في جزء جديد ذي إضاءة أعلي, الصور المتناثرة علي الحائط تختلط برنات صاجات بائع العرقسوس, وصوت مياه النيل المارة عند المقياس, وأصوات أوراق الشجر الجافة والعصافير الصباحية التي لا تهدأ, يقطعها جميعا هتاف يتردد بأن الشعب يريد أصوات الميدان تتسلل لتعطي كل تلك الأصوات والصور التقليدية المعلقة بعدا جديدا انت الآن تمر بصحبة المدينة في النفق, ويذكرك صوت الصرير المؤلم الذي سيخترق أذنك الآن بآلام الميلاد. القاهرة الآن تتشكل من جديد وفي نهاية النفق تنتظرك شاشة تتلاعب عليها الأضواء الصافية لتنعم بلحظة الوصول. تمثل عبارة د. نهلة مطر( واحدة من المؤلفين الموسيقيين المشاركين بالمشروع) التي ذكرتها في محاضرتها خلال الأيام الأولي للمعرض, مفتاحا لمن يجد صعوبة في التواصل مع فن التجهيز الصوتي, تقول نهلة مطر: الرحلة في مشروع المدينة الشبح, تشبه تلك الرحلة الروحية المصرية القديمة نحو قدس الأقداس, تلك التجربة التي تجد أصداءها لدي الرهبان في المسيحية, ولدي المتصوفة في الإسلام, أنت تمر بالكثير من الصخب والخلط في طريقك إلي النور والحقيقة والقاهرة بها طبقات من الصخب ولكني رغم ذلك لا يمكن أن أصف هذا العمل الفني بالمحاولة لتفكيك المدينة فما انتهينا اليه كفنانين هو ما ينتهي اليه أي فنان إعادة تركيب موضوع العمل مدينة القاهرة وخلق العلاقات بها بما يتوافق مع رؤيتنا نحن لها. نحن لا نفكك المدينة وندعها, نحن نعيد تركيبها من جديد. المعرض الذي يختلط فيه فن التجهيز الصوتي بالتجهيز البصري والتصوير الفوتوغرافي باسم المدينة الشبح.. من ذاكرة القاهرة يشترك فيه أربعة مؤلفين موسيقيين من مصر وسويسرا هم فرانسيسكا باومان الفريد تسيمرلين, نهلة مطر ومروان فوزي وأعد السينوغرافيا الخاصة به( الإعداد البصري) الفنان طارق مأمون مدير مركز سعد زغلول الثقافي وتولت التصوير الفوتوغرافي الفنانة دعاء قاسم. ويقام علي هامش المعرض ورشة للنقد الفني لمشروعات التجهيزinstallation ويستمر حتي السادس من سبتمبر المقبل.