يعد الصوم فريضة شرعيَّةً فى كل دين سماوي؛ بل هو شعار المسلمين فى كل زمن، ومن أفضل أبواب النوافل، ومن أجمع العبادات؛ بل هو فريضة ونافلة وكفارة ونذر، وهو إيمان وإسلام وخلق. ومع ذلك - فشأن تلك الشريعة الغراء كلِّها- يرعى الصيام الحقوق التى لله تعالى والتى للنفس، وتلك التى للأهل والأضياف والداعين للطعام وغيرهم.. قال عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ الله عَنْهُمَا -: قَالَ لِى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ الله! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ»؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله! قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ الله دَاوُدَ - عليه السلام - وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ»، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ الله دَاوُدَ - عليه السلام؟ قَالَ: «نِصْفَ الدَّهْرِ»؛ فَكَانَ عَبْدُ الله يَقُولُ -بَعْدَ مَا كَبِرَ-: يَا لَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم. وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً، كان من هداياه صلى الله عليه وسلم أن يترك بعضا من الأعمال الفاضلة، وهو يحب أن يفعلها، أو أن يفعلها الناس، لأسباب عديدة، أهمها: أن يخفف على أمته ؛ لأنه إذا فعل الفعل الفاضل، وداوم عليه؛ كان فيه نوع تشديد ومشقة على من يريد الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حجر الهيتمي: «صيامه فى السنَة والشهر على أنواع، ولم يكن يصوم الدهر، ولا يقوم الليل كله، وإن كان له قدرة على ذلك؛ لئلا يُقتدى به فيشق على أمته، وإنما كان يسلك الوسط، ويصوم حتى يُظن أنه لا يفطر، ويفطر حتى يُظن أنه لا يصوم، ويقوم حتى يُظن أنه لا ينام، وينام حتى يُظن أنه لا يقوم». ومنها: خوفه أن يفرض هذا العمل على الأمة، كتركه صلى الله عليه وسلم لصلاة التراويح فى رمضان خوفًا من أن تفرض على الأمة. ومن هنا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب على صيام داود عليه السلام، مع إرشاده إليه، وإخباره بأنه أفضل الصيام، كما جاء فى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل الصيام صيام داود: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)؛ وذلك لئلا يشق على أمته، لأن أهل الإيمان يتسارعون فى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وصيام يوم بعد يوم يشق عليهم.