تمر السنوات ولا تتغير العادات عند أهل الجنوب مهما تطورت الحياة, فالقبائل الأصيلة في أسوان لا تزال تتمسك بتراثها الرمضاني الذي لا ينقطع قبل وبعد الإفطار الذي دائما ما يكون شبه مجمع, فنادرا ما نجد نوبيا مثلا في مركز نصر النوبة يتناول إفطاره وحيدا داخل بيته. في النوبة وعند قبائل البشارية يحلي السهر علي الجبنة والجاكوت والإتر والكابد والفتي والكاجيه, وتخرج مشنات وصواني الإفطار من كل بيت ويفترش الأهالي المصاطب ويجلس الجميع وهم لا يدرون علي أي مائدة بيت يفطرون في تجسيد رائع للحب والتكافل الاجتماعي. وعن العادات والتراث النوبي يتحدث العم خليل الجبالي, هكذا يطلقون عليه في نصر النوبة, قائلا: إن جميع بيوت أهل النوبة في القري يد واحدة خلال شهر رمضان, فهو شهر للتآخي والتواصل نحرص خلاله علي أن نحظي بثواب إفطار صائم من عابري السبيل, ويقول إن أهم مظاهر الشهر الكريم عند النوبة هو مشروب الأبرية الذي تجهزه السيدات النوبيات قبل حلول الشهر المعظم بأسابيع وهو عبارة عن عجين الذرة المخمر المصنوع علي الدوكة ألواح الصفيح الساخنة قبل أن تضاف له الحلبة والقرفة والليمون, وأضاف قائلا: إن النوبيين وبعد شراب الموية قبل الأكل يتجمعون معا لأداء صلاة المغرب في جماعة ثم يعودون لتناول الإفطار الذي لا يخلو من الإتر وهو الملوخية باللغة الفادجيكية والكابد وهو عبارة عن عجائن تشبه القطائف وإن كانت أكثر سمكا, ويتوجهون بعد ذلك لأداء صلاة العشاء والتراويح تعقبها جلسات السمر وتبادل الذكريات مع تناول أطباق الشعرية باللبن حتي يحل موعد السحور الذي غالبا ما نتناوله في داخل البيوت. وأوضح الجبالي أن شهر رمضان في النوبة يكون فرصة مناسبة للمصالحات والتوفيق بين المتخاصمين, كما ينتهزه البعض فرصة للخطوبة وقراءة الفاتحة وتجهيز الأفراح في عيد الفطر. الملكة المتوجة وقالت جميلة الجزائرية من النوبة إن السيدة النوبية هي الملكة المتوجة دائما في شهر رمضان, حيث تحمل هموم ومسئوليات إعداد وتجهيز المائدة الرمضانية بشكل مختلف كل يوم, وتقول إن المائدة النوبية يتصدرها البلح المنقوع في اللبن أو الماء المغلي وشراب الأبرية, وقالت: إن الأجداد حكوا لنا عن مظاهر الاحتفال بشهر الصوم في النوبة القديمة وهي مظاهر وإن اختفي جزء منها إلا أن معظمها لا يزال يتوارث بين الأجيال المتعاقبة, وقديما كنا نعتمد علي طعامنا الطبيعي من الزراعة والصيد وأشهر الأكلات هي الإتر والكابد والسناسن والويكة. وأشارت جميلة الجزائرية إلي أن الاستعداد في البيوت النوبية لاستقبال شهر رمضان يبدأ من شهر شعبان, حيث تتحول البيوت إلي خلية نحل لإعداد الأبرية الذي نهديه إلي أبناء العمومة المقيمين في القاهرة والإسكندرية. الإنشاد الديني ومن النوبة الفاديجكا في نصر النوبة إلي النوبيين الكنوز في مدينة أسوان, يقول المهندس خالد عبد الوارث عبدون من قرية غرب أسوان: إن مظاهر الاحتفال والاحتفاظ بعادات شهر رمضان الكريم لا تختلف كثيرا إلا في اللغة, فالبلح وهو الجوندوة باللغة الكنزية النوبية لا يخلو منه بيت نوبي في رمضان أو باقي العام, ودائما ما تكون الموائد الرمضانية عامرة بالفتي ومعناه السناسن التي تصنع من دقيق الذرة لتعطي مذاقا طيبا مع الجاكوت ومعناه الملوخية, هذا بخلاف الكاجيه أو الخماريت وهو الكابد عند أولاد العمومة الفاديجكا, ويضيف عبدون قائلا: إن النوبيين في غرب أسوان وغيرها من القري يتجمعون كالعادة في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة التراويح, وبعدها تبدأ حلقات من الإنشاد الديني وتبادل المعلومات ولا تخلو هذه الجلسات من الأطعمة الرمضانية الشهيرة والحلوي وعلي رأسها أطباق الشعرية باللبن. حراس الجنوب البشارية; قبائل عربية أصيلة يسكن معظمها في جبال الأحمر, وهم حراس الجنوب, ومنهم من يعيش منذ زمن طويل في محافظة أسوان التي يثرونها بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة منذ القدم.. يقول الشيخ نصر كرار شيخ البشارية: إن العرب يستقبلون ليلة هلال الشهر الكريم بالتهاليل والدعاء وهي عادة موروثة, حيث يخرجون بزيهم التقليدي وهم يحملون السيوف هاتفين: الله أكبر, مرحب بضيف كريم وشهر عظيم, وعن العادات التي لم تنقطع عند البشارية في شهر رمضان يتحدث الشيخ محمد شريف أشر قائلا: منذ اليوم الأول في رمضان وحتي ليلة رؤية هلال عيد الفطر المبارك والبشارية يتناولون إفطارهم المجمع خارج البيوت, كما يحرصون علي دعوة المارة للإفطار ويعتبرون من لا يلبي نداءهم إهانة لا تغتفر, ويضيف أشر قائلا: إن هناك بعض العادات الموروثة التي لا نزال نتمسك بها مهما تطورت الحياة, ومنها الإفطار علي المديدة وهي أكلات تصنع من الدقيق وتضاف لها جميع الأعشاب الطبية كالحلف بر والعرديب المطحون لتعطي لنا مذاقا طيبا ونكهة رائعة بخلاف كونها تعويضا مهما للجسم بعد صيام ساعات طويلة, ويوضح بأن بعد تناول المشروبات العادية المعروفة كالأبرية والكركدية والعرديب نتوجه لأداء صلاة المغرب ثم نعود لنكمل المائدة بتناول اللوقمة العصيدة وهي عبارة عن دقيق ذرة معجون ومخمر تضاف له لقيمات صغيرة تعطي بعض المرارة في مذاقها مع الجبنة وهي القهوة العربية الأصيلة بالحبهان والمستكة, وعقب صلاة العشاء والتراويح يبدأ كل بيت بشاري في الخروج بصينية المشويات السلات وهو عبارة عن قطع اللحم المشوي علي الزلط الساخن الذي نتناوله مع السناسن الساخنة المحمرة علي الدوكة. وعن مظاهر المحبة والتآخي في الشهر الكريم, قال الشيخ عوض هدل: إن البشارية في هذا الشهر يعقدون مجالس العرب العرفية مرة كل أسبوع, وذلك من أجل عقد المصالحات والفض بين المختلفين في أمور شتي, فرمضان شهر الفرج وأيامه مباركة تتصافي فيها النفوس التي تشتاق دوما إلي نفحاته الطيبة.