الكذبأصل الرذائل, وجماع كل أنواع الشرور والموبقات; وقد ذم الله سبحانه وتعالي أهل الكذب في كتابه الكريم وتوعدهم بأشد أنواع الوعيد والعقاب; حيث قال عز من قائل قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم علي النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون( الذاريات10-14) والكذب هو الإخبار بالشيء بخلاف ما هو عليه علي وجه العلم والتعمد, وهو من أقبح الأخلاق وأرذل الصفات, ويعد في شريعة الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب. يقول الدكتور عبد التواب محمد عثمان بكلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر بالقاهرة ان الله سبحانه وتعالي يقول في كتابه{ قتل الخراصون} قال: القوم الذين كانوا يتخرصون الكذب علي رسول الله- صلي الله عليه وسلم-, قالت طائفة: إنما هو ساحر, والذي جاء به سحر. وقالت طائفة: إنما هو شاعر, والذي جاء به شعر; وقالت طائفة: إنما هو كاهن, والذي جاء به كهانة; وقالت طائفة:{ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا} يتخرصون علي رسول الله- صلي الله عليه وسلم. وهناك صنف من الناس يرون أن الكذب من الذكاء والدهاء وحسن الصنيع, بل ومن مميزات الشخصية الفاعلة وقد بين المولي تبارك وتعالي صفات المنافقين فأخبر أن من أهم ما يميزهم الكذب في القول والفعل, فالصدق أساس الإيمان ودليله, والكذب أساس النفاق ودليله, وما ابتلي الله تعالي عبدا بعد الكفر ببلية أشد علي قلبه من الكذب, لأنه صلي الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل يكذب ويتحري الكذب حتي يكتب عند الله تعالي كذابا. ونبه د. عبد التواب من خطورة الكذب قائلا إن النبي صلي الله عليه وسلم حذر من صور كثيرة قد تخفي علي المسلم, منها: أن يتحدث المسلم بكل ما يسمعه, قال صلي الله عليه وسلم: كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع, رغم أن الحديث يخبر بأنه سمع, يعني: لم يختلق الحديث من الأساس لكنه تحدث بكل ما سمعه فعد النبي صلي الله عليه وسلم ذلك كذبا. ومنها ما يقع فيه كثير من الناس من الكذب من أجل إضحاك جليسه, فقد قال صلي الله عليه وسلم: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم, ويل له, ويل له, وقال صلي الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا. وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أن من خطورة الكذب أن ينقل عن الإنسان فوله ويعم الآفاق فيتحمل وزر كل من سمعه, عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال النبي صلي الله عليه وسلم: رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتي تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلي يوم القيامة وفي هذا إشارة عظيمة إلي خطورة الأخبار الكاذبة والتلفيق الذي يمارسه كثير من الناس, وخصوصا من هم في موقع المسئولية أو في موقع الإرشاد. ويقول الدكتور عبد الله أبو الفتح بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة ولأن الكذب من أخطر الأدواء الفتاكة وأشد الأمراض المهلكة حذر رسول الله- صلي الله عليه وسلم المسلمين جميعا من الاتصاف به, قائلا: إياكم والكذب; فإن الكذب يهدي إلي الفجور, والفجور يهدي إلي النار, وما يزال العبد يكذب ويتحري الكذب; حتي يكتب عند الله كذابا, ففي هذا الحديث الشريف بيان لسوء خاتمة الكذاب, الذي يتكرر منه الكذب حتي أصبح عادة مستحكمة له تؤدي به إلي شتي أنواع الفجور الذي هو جماع الأسباب الرئيسة لدخول النار والعياذ بالله, قال الله تعالي-:{ إن الأبرار لفي نعيم* وإن الفجار لفي جحيم},سورة الانفطار:1413] وليس الجحيم الذي يؤدي إليه الفجور مقصورا علي جحيم الآخرة فقط بل قد يكون في دار الدنيا, ودار البرزخ, ودار القرار, وهل من عذاب أشد من الخوف والهم والحزن, وضيق الصدر الذي يعيش به الكذاب طوال حياته. وقوله- صلي الله عليه وسلم-:, إياكم والكذب] يعني: ابتعدوا عنه واجتنبوه, وهذا يعم الكذب في كل شيءسواء كان كذبا علي الله ورسوله, أو كان كذبا علي الخلق, أما الكذب علي الله ورسوله فيجعل صاحبه من أهل النار كما في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم-:, من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار], وأما الكذب علي الخلق فيؤدي كذلك إلي الهلاك حتي ولو كان هذا الكذب في رؤيا ادعي الكذاب أنه رآها في منامه, فقد روي عن النبي- صلي الله عليه وسلم أنه قال كما فيالبخاري:, من تحلم بحلم لم يره, كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل]. ولقد عد رسول الله- صلي الله عليه وسلم التعود علي الكذب من خصال المنافقين, فقال- صلي الله عليه وسلم:, أربع من كن فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتي يدعها: إذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر], وفي رواية:, آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان] والمعني: أن هذه الخصال خصال نفاق, وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم; فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه, وهذا المعني موجود في صاحب هذه الخصال, ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس, لأنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر, ولم يرد النبي- صلي الله عليه وسلم- بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله- صلي الله عليه وسلم, كان منافقا خالصا] معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال, قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه, فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه, ولهذا لما قيل للنبي- صلي الله عليه وسلم-:, أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا]. ويوضح الدكتور عبد الله انه لا يصح قول من قال: إن الكذب إذا لم يتضمن ضررا علي الغير, فلا بأس به; فإن هذا قول باطل; لأن النصوص ليس فيها هذا القول, والنصوص تحرم الكذب مطلقا; يعني: إذا كذب الرجل في حديثه, فإنه لا يزال فيه الأمر حتي يصل إلي الفجور- والعياذ بالله- وهو الخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان فالفجور يؤدي إلي نزع ستر الديانة, فيميل من اتصف به إلي الفساد, ويتجرأ علي اقتراف المعاصي, فالفجور إذا اسم جامع للشر, وسببه الرئيس هو تعويد الإنسان نفسه علي الكذب الذي يؤدي به إلي الهلاك, ولهذا قال سيدنا علي- رضي الله عنه وكرم وجهه-: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب, وشر الندامة ندامة يوم القيامة. وعلي الرغم من أن أول ما يتعودعلي الكذب من جوارح الإنسان هو اللسان إلا أن هذا الداء العضال إذا استحكم من اللسان وصار عادة له فإنه بعد ذلك يسري إلي باقي الجوارح فيفسد عليها عملها كما أفسد علي اللسان أقواله, فيصير الكذاب كذابا في كل مناحي حياته حتي يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله, فيستحكم عليه الفساد ويترامي داؤه إلي الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق الذي يجتث ذلك المرض الخطير من أصله, ولهذا قال مالك بن دينار: الصدق والكذب يعتركان في القلب, حتي يخرج أحدهما صاحبه. ومع أن الكذب حرام في كل الأحوال إلا أن شريعة الإسلام قد استثنت من تلك القاعدة المستقرة مواطن محددة, فالكذب حرام مطلقا ولم يرخص الإسلام في شيء منه إلا فيمواضع ثلاثة: الأول: في حال الحرب مع الأعداء حتي لا تتسرب لهم أسرار المسلمين, والثاني: في حال الإصلاح بين الناس حتي لا تزيد البغضاء وتتقطع الأواصر, والثالث: في حال حديث الرجل إلي امرأته, وحديث المرأة إلي زوجها, حتي لا تنهار الأسرة, وفي هذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم- ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس, ويقول خيرا وينمي خيرا, قال ابن شهاب: ولم أسمع من يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا إلا في ثلاث: الحرب, والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.