كم كان المشهد عبثيا ومثيرا للدهشة والسخرية والاستغراب والألم في آن.. ذلك الذي حدث منذ أيام في المنظمة الدولية الأهم في العالم, عندما فاجأت السفيرة الأمريكية لدي الأممالمتحدة نيكي هايلي نظراءها من ممثلي الدول الأعضاء في المنظمة الأممية بقولها فيما يشبه التهديد بأنها ستبلغ الرئيس دونالد ترامب بأسماء الدول التي ستدعم مشروع قرار يرفض إعلان واشنطن اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل! وبعيدا عن مناقشة أحقية الولاياتالمتحدة من عدمه في تحديد مصير مدينة القدسالمحتلة, وانحيازها الدائم للاحتلال الإسرائيلي, ودعمها بالمال والسلاح والتأييد في المحافل الدولية, وحمايتها من أي إجراءات عقابية من جانب المجتمع الدولي بسبب انتهاكاتها المتواصلة لحقوق الشعب الفلسطيني باستخدام حق الفيتو في غير موضعه, تأتي واقعة الأممالمتحدة كسابقة غريبة يمكن وصفها بالعمل الصبياني غير المسئول, فتهديدات ترامب التي نقلتها المندوبة الأمريكية في وجه العالم أحالت المنظمة من محفل عالمي له وزنه واعتباره وثقله, وله الحق في مناقشة مستقبل الكرة الأرضية وبحث سبل إرساء السلام العالمي وفض المنازعات وحل الصراعات الكبري ووقف الحروب, إلي فصل دراسي لتلاميذ في المرحلة الابتدائية يتلقون تعليمات مباشرة من واشنطن, ويخشون العقاب, وهو بمثابة تلويح بالعصا الأمريكية لكل من يتجرأ ويمارس حقه في التعبير عن موقف بلاده من الاعتراف الأمريكي الذي لا يستند لأي قانون. التهديد نفسه غير قانوني, ويهدر حق الدول في الاختيار, وليس حق الفلسطينيين وحدهم في أرضهم. ويبدو أن السفيرة الأمريكية نسيت وهي تلقي بتهديدها أن من تخاطبهم ليسوا تلاميذ في فصل دراسي, ولا أسري حرب بل سفراء يمثلون دولهم التي تشكل في مجموعها العالم كله! والأمر هنا يختلف عن كل تجاوزات الولاياتالمتحدة السابقة التي مارست فيها دور شرطي العالم بالتدخل المباشر في شئون الدول بالقوة المباشرة وفرض سياسة الأمر الواقع علي دول بعينها في أزمات أغلبها مفتعل من جانبها باللجوء إلي المقاتلات والأساطيل والصواريخ والأسلحة المحرمة دوليا مثلما فعلت في فيتنام والصومال وليبيا والعراق واليمن وباكستان وأفغانستان وغيرها, فيما كان العالم يكتفي بالإدانة والمراقبة والتواطؤ بالصمت, هذه المرة ترامب اعتمد سياسة جديدة تماما تعتمد علي التهديد الجماعي من دون أي منطق. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد دعت الخميس الماضي إلي التصويت علي مشروع قرار يدين اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل, وذلك في أعقاب تصويت كل أعضاء مجلس الأمن قبلها بيومين بالموافقة علي المشروع المصري برفض القرار الأمريكي والذي أشهرت فيه واشنطن حق الفيتو وكانت المعترض الوحيد, مما أجهض المشروع. ورغم التهديد الأمريكي صوتت أغلب الدول ضد قرار ترامب فيما يعد هزيمة كبيرة لواشنطن, حيث أيدت128 دولة القرار الذي يدعو أمريكا إلي سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل, فيما صوتت9 دول فقط ضده, وامتنعت35 دولة عن التصويت ولم تدل21 دولة بصوتها. من جانبها رفضت إسرائيل نتيجة التصويت, بينما اعتبره السفير الفلسطيني لدي الأممالمتحدة رياض منصور هزيمة كبيرة للولايات المتحدةالأمريكية. مكتب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو قال في بيان عقب التصويت: ترفض إسرائيل قرار الأممالمتحدة, وهي في الوقت نفسه راضية بشأن العدد الكبير من الدول التي لم تصوت لصالحه. وأضاف مكتب نتانياهو: تشكر إسرائيل الرئيس الأمريكي علي موقفه الواضح لصالح القدس, كما تشكر الدول التي صوتت مع إسرائيل.. مع الحقيقة. في المقابل رحبت الرئاسة الفلسطينية علي لسان نبيل أبو ردينة المتحدث باسمها بالقرار غير الملزم وأشادت بالمجتمع الدولي الذي لم يمنعه التهديد والابتزاز من الوقوف إلي جانب الحق, وقال: إن القرار يؤكد مجددا وقوف المجتمع الدولي إلي جانب الحق الفلسطيني ولم يمنعه التهديد والابتزاز من مخالفة قرارات الشرعية الدولية. وبالعودة إلي تهديدات السفيرة الأمريكية التي جاءت في صورة رسالة موجهة لسفراء عدد من الدول الأعضاء في الأممالمتحدة جاء فيها أن الرئيس ترامب سيراقب التصويت علي القرار بشكل دقيق وأنه طلب إبلاغه بالبلدان التي ستصوت ضده, وأضافت هايلي محذرة: سنسجل كل تصويت حول هذه القضية, كما كتبت في تغريدة علي تويتر أن الولاياتالمتحدة ستسجل الأسماء خلال التصويت في الجمعية العامة التي تضم193 بلدا.. والتي تلتها تهديدات أخري من ترامب نفسه بقطع المعونات عن بعض الدول إذا صوتت ضد قراره الجائر, فيما يشكل ترهيبا وتهديدا صريحا, أغلب الظن أنه ترك أثرا سلبيا علي نتيجة التصويت, الذي كان من الممكن أن يكون إجماعا مثلما حدث في التصويت علي المشروع المصري.. مما يعد عبثا بالشرعية الدولية, واستعراض قوة وغطرسة مرفوضة. قد لا يغير التصويت من الأمر شيئا أمام إصرار ترامب علي موقفه, خاصة أن القدس ترزح تحت احتلال فعلي من جيش الكيان الصهيوني, ولكنه في الحد الأدني كشف عن الوجه القبيح للولايات المتحدة أمام العالم, وقد يسهم في تأجيل تنفيذ قرار ترامب سنوات طويلة ربما تمتد إلي ما بعد ولايته.